لم تكن البداية من الصفر!
ما زال أبناء الجيل الذين اكتووا بنار هزيمة يونيو عام ١٩٦٧ وانخرطوا في صفوف القوات المسلحة حتى تحقق نصر السادات من أكتوبر ٧٣ يستعدون ذكري تلك الأيام التي فصلت بين مرارة الهزيمة.. وحلاوة النصر، والتي شهدت حرب الاستنزاف.
والحقيقة أن تلك الحرب لم تنل ما تستحق من إلقاء الضوء عليها رغم أنها كانت تمثل المرحلة الافتتاحية لحرب أكتوبر وفق تقدير الخبراء الذين ارخوا لها.. وأشاروا إلى نصر أكتوبر لم يتحقق بين عشية وضحاها.. إنما سبقتها جهود جبارة وتضحيات يصعب وصفها بدأت بعد أيام من الخامس من يونيو ٦٧.. ورفض الشعب المصري لقرار زعيمه جمال عبدالناصر الذي أعلن بشجاعة أنه وحده المسئول عن الهزيمة.. لذلك سيتخلي عن منصبه الرئاسي ويعمل وسط الجماهير حتى يتحقق النصر.
وكانت المفاجأة التي أذهلت العالم، أن المصريين رفضوا استبعاد الرئيس الذي أعلن مسئوليته الكاملة عن الهزيمة.. وطالبوه بالبقاء حتى يتولي القيادة ويزيل عار الهزيمة.. ويستعبد لمصر كرامتها.
وكان قرار القيادة بتجنيد حملة المؤهلات في الجيش المصري وتوزيعهم على تشكيلاته وفق تخصصاتهم بداية تصحيح الأوضاع التي أدت إلى الهزيمة
وأتذكر أنه عندما تم تجنيدي مع أبناء جبلي، كانت الثقة تكاد تكون مفقودة بين الشعب والجيش، وكم عانى جيشنا الذي عن وعيهم مع ثورة يوليو وانتصاراتها على مختلف الأصعدة، ثم صدمتهم هزيمة يونيو التي لا يتحمل مسئوليتها الجيش المصري.. إنما القيادات غير المحترفة وغير المؤهلة.. وهي التي قادت إلى الهزيمة.. وقد غابت تلك الحقيقة عن الوجدان الشعبي، الذي طالما حمل القوات المسلحة مسئولية ما جري.. وساعد على اشتعال الغضب الشعبي حرب نفسية يشنها العدو الإسرائيلي عبر وسائل إعلامه لإحداث وقيعة بين الشعب والجيش.. وبين المقاتلين وقادتهم.. والادعاء بأن الجيش المصري أضعف من أن يواجه جيش إسرائيل الذي لا يقهر.
ووجدت تلك الحرب النفسية دعما من تيار الإسلام السياسي، الذي اعتبر الهزيمة مناسبة للهجوم على عبدالناصر ونظامه، حتى إن أحد أبرز شيوخهم أعلن أن الهزيمة حدثت بسبب ابتعاد المصريين عن صحيح الإسلام.. وأدى صلاة الشكر على نعمته التي تحققت بهزيمة جيش مصر.
تلك هي الأجواء التي واكبت انضمامنا إلى صفوف القوات المسلحة بعد هزيمة يونيو، وتغيرت الصورة تماما بعد أن أدركنا أن حالة الإحباط التي كنا نشعر بها، لا وجود لها داخل الجيش الذي يرفع شعار «النصر أو الشهادة» تجسيد لإرادة لا يكن لمحو عار الهزيمة.
وكانت حرب الاستنزاف هي التي ضمدت جروحنا وأعادت الثقة المفقودة بين الشعب والجيش.
والأهم في رأي المؤرخين وفي مقدمتهم اللواء مصطفى كامل أحد الذين وضعوا إستراتيجية إعادة بناء القوات المسلحة أنها أظهرت للعالم كله فشل نظرية الأمن الإسرائيلي.. وأن إسرائيل لا تستطيع أن تحافظ أمنها بالصورة التي تعتدي بها على الآخرين.
بداية النصر الذي تحقق في أكتوبر كان خلال حرب الاستنزاف فالبداية لم تكن من الصفر.