المواطن الحائر.. بين «القهر والحيلة»!!
عندما هبط الإنسان على الأرض كانت الطبيعة هي القوة الوحيدة التي أُجبِر الإنسان على الدخول معها في علاقات مفتوحة.. بدأت بالانسجام إلى حد "العبودية" وانتهت بالانقلاب عليها إلى حد الجرأة في "انتهاك كل محرماتها.. فلم يمتلك الإنسان في البداية "القدرة" على التدخل في شئونها، كما لم يكن لديه "الفكرة" لتوجيهها إلى حيث مصلحته. ومن ثم فلم يكن أمامه سوى "الخنوع" لمكوناتها الملموسة.. فتارة نراه عابدًا لـ"الأرض" وتارة نراه يعبد "الشمس" وتارة أخرى نراه مطوقا بعبادة "النهر" مُقِرًا بأهمية احترام تلك الأصول؛ لاستمرار رحلته على الأرض.. ذلك الإقرار الذي دفع الطبيعة إلى ممارسة القسوة على الإنسان تارة بالسيول وأخرى بالجفاف، خاصة عندما شعرت بتوحش طموحاته ورغباته العارمة في استنزاف مواردها.. فاضطر الإنسان إلى "إعمال العقل" الذي وَلَّد بداخله" "الإرادة" التي مكنته بدورها من امتطاء النهر، واكتشاف بدائل لطاقة الشمس، والانتصار على "عقم" الأرض؛ فتحرر الإنسان من عبوديته، بل وتمكن من فرض "سيطرته"!
بيد أنه واجه نوعا آخر من العبودية وهى عبودية الإنسان للإنسان.. فنراه تارة عبدا لصاحب "سلطة" وأخرى لصاحب "نفوذ" مغلفا عبوديته بشرعية وهمية وإن جاز"تبريرية" مفادها عبادة "لقمة العيش".. ذلك العيش المحشو بذل العبودية وانتهاك الكرامة الإنسانية.. وكأن العبودية ليست "عقيدة " راسخة في ضمائر الشعوب، بقدر ما هي"حيلة" نستخدمها حينما تقهرنا "القوة".. فكلما ضاقت الظروف وأحكمت الأيام قبضتها..عاش الإنسان في وطنه "حائرًا" بين القهر والحيلة!
وأكثر ما يُقهِر الإنسان ويُضعفه هو الفقر والمرض والجهل؛ فكلها أمراض مستعصية على الأنظمة والشعوب المتخلفة!! عادة ما يصنعها "مُلاك السلطة"؛ لإضعاف الشعوب تمهيدا لاستعبادها.. وربما هناك من يخالفني الرأي.. فأكتفي هنا بأن أُذكره بأن هناك دولا عندما تسبق معدلات النمو السكاني معدلات النمو الاقتصادي تزج بشبابها في حروب "استثنائية"؛ إما لتنمية مواردها العاجزة.. في حالة "النصر".. وإما للتخلص من أعدادها السكانية الخاملة.. في حالة "الهزيمة"!!
كما أن هناك ثقافات تضع لسكانها مستوى معيشي معينا.. وعندما تشعر بتدني ذلك المستوى؛ تسن لشعوبها قوانين تُبيح للأسر التخلص من العدد الزائد من الأبناء عن متوسط الإنفاق المطلوب؛ تحت ما يسمى بدعوى "القتل الرحيم".. وهناك حكومات أخرى تبيح "المثلية" في الزواج للحد من معدلات الإنجاب.. وكلها مؤشرات تدل على رسوخ "تأليه" السلطة في عقيدة الحُكَام..مهما وصلت تلك الدول من تقدم ومهما حققت من حضارة!!
وفى بلداننا العربية..ربما نقبل أن الانصهار في أتون الفقر والذل.. ولا نقبل بأي دعوة لـ "تحديد النسل" ولا نستجيب لأي عقل يطالبنا بـ "التخطيط" لمحاربة الفقر.. ولا نقبل بحال "قتل" أبنائنا خشية "إملاق"!
ومن هنا فقد وَجَب علينا التساؤل: إلى متى نستمر في تعطيل إعمال العقل؟ وإلى متى لا نأخذ من تفسيرات "الدين" إلا ما يُكرِس أسباب تخلفنا؟ ونترك كل التفسيرات التي تجعل الدين مصدر إلهام لـ "النهضة"..وعنوانًا مهما لاحترام "كرامة" الإنسان على الأرض..؟ وإلى متى نظل نُغلِق أعيننا عن مصادر التنوير..ونغلق أذهاننا دون التفكير في معانٍ أخرى للعيش الكريم.. العيش الذي لا يجعلنا دائما في موضع "الحائر" بين القهر والحيلة؟!
لماذا نظل دائما "نؤله" الواقع بظروفه المتشعبة.. ونرفع رايات التسليم والاستكانة.. ولا نمتلك "الجرأة" وربما "الإرادة" الكافية لتغييره أو التخلص منه؟ لماذا مثلا نبرر لأنفسنا قوة أمريكا أو إسرائيل.. دون أن نبحث في أنفسنا عن مصادر جديدة لقوة مناوئة؟ لماذا نرى "الفقر" واقعا "يُقهرنا" ونعجز عن محاربته.. ونرى "الفساد" منهجا نعجز عن تغييره.. ونرى "المرض" شرًا لابد منه؛ تكفيرًا عن خطايانا؟!
لماذا نفترض دائما أن جميع الحُكَام "فاسدون".. وليس لديهم نية صادقة للنهضة والإصلاح؛ لنبرر لأنفسنا العجز عن مواجهة السلطة بواقعنا المرير.. ونُسَوِغ لعقولنا عدم التفكير في حلول وبدائل آمنة لتجاوز الأزمة.. وخلق علاقة انسجام بين الحُكَام والشعوب؟ وأخيرا متى نتحرر بصدق من "عُبوديتنا التبريرية "؟