أزمة العقل المسلم
نعم الله تعالى على عباده كثيرة، وهي أجل من أن تحصى، لكن أعظم هذه النعم وأجلها هي نعمة العقل، الذي يعتبر مناط التكليف.. جاء في "المعجم الوسيط" أن "عقل" بمعنى أدرك الأشياء على حقيقتها، وعقل الغلام أي أدرك وميز.. ويقال: ما فعلت هذا مذ عقلت.. والعاقل هو المدرك.. وأقول: إن العاقل هو من يستخدم عقله في الخير، أما من يستخدمه في الشر، تخطيطا أو تدبيرا أو تدميرا، فليس بعاقل..
البعض منا يغذي عقله بالعلم والمعرفة الصحيحة، ومن ثم يظل يقظا منتبها، بينما البعض الآخر يتركه مهملا خاملا غافلا.. وكما أن البعض قد يفقد عقله قهرا أو جبرا، هناك من يفقده طواعية أو اختيارا، وذلك بأن يدع الآخرين يسلبونه إياه.. وكما أن هناك عقلا مرتبا، هناك أيضا عقل فوضوي.. والعقل المرتب لديه القدرة على التمييز بين الكل والجزء، أو بين الأصول والفروع، أو يمكنه ترتيب الأولويات، أما الفوضوي فتختلط عنده الأمور، فيهمل أصولا أو يقدم فروعا على أصول، أو ليست لديه قدرة على ترتيب الأولويات، وهكذا..
والمتأمل في العقل المسلم اليوم يجده في حاجة إلى فك وتركيب، أو إلى إعادة تشكيل وصياغة جديدة؛ حتى يستطيع أن يتخلص من الأغلال والقيود التي تكبله وتعوقه عن التفكير المبدع والخلاق.. ولعل الفترة التي حكم فيها الإخوان مصر، رغم قصرها، كشفت عن غيبوبة رهيبة وعيوب مأساوية وتشوهات كارثية في العقل المسلم.. وأحسب أنها ليست مقتصرة على الإخوان، وإنما هي ملاحظة ومرصودة تقريبا في معظم المنتسبين للحركة الإسلامية.. على سبيل المثال، هناك جهل - أو تجاهل - لقانون السببية، وعدم اعتبار - أو استيعاب - للقانونية التاريخية، علاوة على الغفلة - أو التغافل - عن السنن الربانية..
إن المتأمل لكتاب الله سبحانه، يجد الكثير من الآيات التي أعطت العقل المسلم رؤية تركيبية للكون والحياة والإنسان والوجود.. هذه الآيات تربط بشكل واضح بين الأسباب والمسببات.. وإذا كان الله تعالى لا يحكم نفسه بالأسباب التي خلقها والسنن التي وضعها، إلا أنه شرعها للمخلوق ليعمل بها ويحاكم على ضوئها.. والحقيقة أن القضية تتعلق بأصل التكليف، ولو أن المخلوق عدل عن العمل بهذه السنن إلى غيرها مما صنعه البشر، لكان محل مساءلة.. هناك من يفشل في دراسته، أو تجارته، أو في تنافسه - السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي - مع الآخرين، وهناك من تهيأت له الظروف كي يصل إلى سدة الحكم، لكنه بدلا من أن يأخذ بأسباب النهوض والتقدم والرقي، إذا به يسيء التخطيط والإدارة ولا يقوم بمهامه على وجهها الصحيح، وعلى الرغم من الفرص الكثيرة التي أتيحت له لتصويب الأخطاء، إلا أنه أصم أذنيه وأعمى بصره، وكانت النتيجة هي السقوط المروع..
أحيانا نجد من يقول: "علينا أن نعمل، لكن ليس علينا إدراك النجاح"، وبدلا من أن يبحث عن الأسباب التي أفضت إلى عدم وصوله إلى النجاح المرجو، إذا به يستسلم و"لا يفر من قضاء الله وقدره إلى قضاء الله وقدره" كما قال عمر (رضى الله عنه).. البعض يفهم قول النبي (صلى الله عليه وسلم): "إذا أصابك شيء فقل قدر الله وما شاء فعل..."، إنه دعوة إلى الاستسلام، وكأن الله تعالى ونبيه الكريم يريدان منا أن نكون سلبيين، وهذا خطأ منهجي واضح في الفهم والتصور..
إن المتأمل للقرآن العظيم يجد آيات كثيرة تؤكد الأخذ بالأسباب والتعاطي مع السنن؛ للتوصل إلى النتائج المطلوبة، بل يطلبان منا أن نكون إيجابيين، وأننا إذا كنا قد فشلنا في مرة فإن علينا أن نعاود الكرة مرة أخرى.. إن عدم مناقشة الثغرات والأسباب التي أدت إليها، وبالتالي عدم الاتعاظ أو الاعتبار أو التعلم، يقود حتمًا إلى الوقوع في سلسلة من الأخطاء.
والدارس لتاريخ الإخوان على مدى عقود يجد عجبا.. فهم لا ينهضون من مأساة إلا ليقعوا في كارثة.. هم لا ينظرون إلى التاريخ، وأنه يجرى وفق سنن لا تتغير ولا تتبدل "سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا" (الأحزاب: ٦٢)، "فهل ينظرون إلا سنة الأولين، فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا" (فاطر: ٤٣).. لذا، هم لا يتعلمون.. وما لم يدركوا أن عليهم مراجعة أنفسهم، وتقويم تجاربهم، واعترافهم بأخطائهم، بل القيام بتصويبها وتصحيحها، فسوف يظلون هكذا إلى ما شاء الله..