رئيس التحرير
عصام كامل

عرابي وعبدالناصر.. ظلم في الحياة وإنصاف بعد الممات


أحمد عرابي وجمال عبدالناصر.. اسمان لهما وزنهما الثقيل، وصفحاتهما الناصعة في التاريخ المصري، والعربي.. حفر الزعيمان اسميهما، ودونا تاريخهما بالدم، والعرق، والجهد، والصبر، والتضحية.. تحملا ما لا يتحمله البشر، ولا تطيقه الجبال.. يكفي ما واجهاه من نكران الجميل، والتشفي، والحقد، والنفاق، والخديعة، والتآمر، والخيانة.


الأول مرت ذكراه قبل أسابيع.. وهذا الرجل كان يستحق من التكريم أفضل مما لقيه؛ سيما أنه لم ينل أثناء حياته سوى الجحود والتنكر لما صنع، وتشويه إنجازاته بصورة مرعبة؛ فبعد أن كان رمزًا للكفاح والبطولة، والوطنية، والزعامة، وكان الخديوِ توفيق يضع نفسه تحت إمرته، وكان يصف نفسه بأنه أحد جنود القائد عرابي، ويمضي جل يومه داخل الثكنات والحصون، وغرف العمليات التي يدير منا البطل معاركه ضد المحتل البريطاني، إلا أن عرابي ورفاقه فوجئوا، بعد انكسارهم في التل الكبير، بخيانة من ديليسبس، بالخديو يقلب لهم ظهر المجن، ويظهر من مشاعره ما كان يبطن.. ويسارع بإعلان عصيان عرابي له وللباب العالي.. وكشف تأييده "الإنجليز"، ويطلب من الشعب، الذي تعرض على الفور لعملية رهيبة من غسيل المخ، التخلي عنه، والترحيب بالأصدقاء البريطانيين، كما وصفهم.

وكانت محاكمة البطل نموذجًا حيًا للتضحية، والبطولة، والفداء في أروع صورها؛ حيث رفض تقديم التماس للخديو بطلب الرأفة والعفو.. لكنه قبل أن يقر بمسئوليته عن مقاومة الإنجليز، وعصيان أوامر الخديو؛ استجابة لنصائح محاميه، لينال رفقاؤه أحكامًا مخففة.

ويتعرض للنفي، ثم يعود بعد ما يقرب من 20 عامًا، ليجد غربة في الوطن أقسى وأمر من غربة المنفى.. كان لا يستطيع أداء الصلاة في المسجد؛ لأن الناس كانوا يهاجمونه، ويسبونه، ويتهمونه بأنه السبب في إدخال الإنجليز لمصر.. حتى قال عنه أحمد شوقي: "صَغَار في الذهاب وفي الإياب.. أهذا كل شأنك ياعرابي؟!".. يالهول ما تحمل الرجل! ضحى بمنصبه الوزاري، وراحته واستقراره، ورغد العيش، ورفض كل الإغراءات للتخلي عن قضيته.. ثم يصدم ممن بذل جميع ما يملك من أجلهم، فيسبونه، ويرمونه بالتهمة الباطلة!

لم يرد الاعتبار للرجل، فيما أعتقد، إلا بعد وفاته بسنوات عديدة.. يكفي أن جنازته لم يمش فيها سوى بضعة أشخاص! ويظل عرابي رمزًا للوطنية والرجولة والبطولة والنبل، في مقابل استمرار توفيق نموذجًا للخيانة والفساد والخسة، ملطخًا سمعة الأسرة العلوية بأكملها.

عبد الناصر أيضًا لقي في حياته من العنت، والخيانة، والنفاق، والنذالة، الكثير.. خاصة بعد هزيمة 67.. وتأتي جنازته لتشهد أكبر حشد في التاريخ.. كنا أطفالا صغارًا وقتها.. ولكننا ما زلنا نذكر الحزن العارم الذي اجتاح مصر والوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه.. كان كل شاب وفتى يشعر وكأنه يتيم، وفقد أباه.. وكل رجل يحس بأنه خسر سنده، وكل أم تبدو وكأنها ثكلت وحيدها ورجلها..

أما ما تعرض له بعد انتقاله لبارئه، فيفوق الوصف.. ويتجاوز الحد.. تشويه، واتهامات وادعاءات باطلة، ومزايدات رخيصة.. لكن شاء الله أن تنقشع الغمة، ويذهب أعداؤه إلى طي النسيان، ويبقى هو علمًا للوطنية، ورمزًا للبطولة، والشهامة.

وأثناء ثورتي يناير ويونيو رفع المشاركون في الحدثين صورة عبدالناصر.. وفي كل موقف صعب لا يجد المصريون والعرب سوى صور الزعيم ناصر.

إنه الإخلاص في العمل.. لا يضيع الله أجر من أحسن عملا.
الجريدة الرسمية