أخيرًا يا بنتي كلتي لحم الخروف
يأتينا أول أيام العيد في أوروبا بلا أفراح بلا زينات بلا زيارات، ذهبت إلى عملى وذهب أولادى إلى المدرسة بلا أي تغيير في الروتين اليومى يشعرنا بأننا في العيد إلا من طوفان من الذكريات البعيدة في مصرحين كنا نسمع صباحًا أصوات حبيبة من المساجد تعلن بدء صلاة العيد وسعادتنا أطفال بملابسنا الجديدة وعيديتنا البسيطة، بعدها نستعد لاستقبال الضيوف المهنئين بالعيد وجدتى التي تخطت السبعين مشغولة بطهى خروفى المأسوف على شبابه والذي أمضيت أسبوعين ألعب معه في حديقة بيتنا العزيز حتى صرنا صديقين ووقفت خلف الشباك أبكيه وهم يذبحوه ويسلخوه وأقسمت ألا أذوق لحمه الشهى الذي وضعوه مع الفتة وأصناف مما لذ وطاب على المائدة وأنا لم أتراجع عن قرار المقاطعة الذي طالما أغضب جدتى.
وفى أول ليالى العيد في الغربة حاولنا أن نصنع سعادتنا فطهوت ليلا كما لو كنا في العيد في بيتنا القديم وتتراءى أمامى صورة جدتى تضحك وتقول أخيرًا يا بنت كلتي لحم الخروف.
منذ ثمانية عشرة عامًا وأنا في طريقى إلى مطار القاهرة قال لى خالى حين تعودى لمصر في أول إجازة توقعى ألا تجدى جدتك فقد أطال الله في عمرها لأجلك وقد أدت رسالتها ولم أتخيل أن كلماته ستتحق، وكنت قد تعودت أن أتصل بها أسبوعيًا يوم الأحد، ولكنها اختفت فجأة، وحين سألت عنها أخبرونى أنها سافرت للعمرة ثم للحج وأنها تتنقل بين السعودية والإمارت والبحرين في زيارات لأولادها ومر عام وأنا أبحث عنها، أنجبت إبنى الأول ولم أسمع منها زغرودة ولا دعاءً له بالبركة والصلاح كان هاجس أنها رحلت عن الحياة يتوقف على أبواب عقلى ولا يجرؤ على أن يطرقها، فحين تكون في داخلنا فكرة مؤلمة يرفض العقل الباطن تصديقها فيتحايل عليها باختلاق تفسيرات حتى لا يقع في بحيرات الألم بأنه فقد غاليًا لن يعود إلى الحياة ولم أتوقف كثيرًا أمام صوت الأقارب المهتز على أوتار الحزن وهم يبررون غيابها وتصنعت أننى لم أفهم كذباتهم الحنونة.
وكل ليلة كنت أحلم بها في بيتنا الكبير تنادى على لأنير لها الغرفة بشمعة حين تنقطع الكهرباء، وظلت هذه الفكرة اللعينة ترافقنى حتى علمت بخبر وفاتها ولم أبك كثيرًا كما توقعت فقد كنت في قرارة نفسى أعلم أنها رحلت وعزائى أنها كانت محاطة بكل أحبائها في أيامها الأخيرة.
وبين دموعى نمت بسلام بعد تأكد خبر الوفاة ولم يهاجمنى الكابوس أنها تنادينى في الظلام ولم يعد ينغص على حياتى فهى الآن في نور من الرحمن وفضله فقد كفلتنى يتيمة وسينير الله لها قبرها ويظلها بظله، عيد سعيد يا جدتى في الجنة.