وليس بقائم بنيان قوم
من أروع ما أبدعه شوقى عن الأخلاق، قيمة ومكانة وآثارًا، قوله: وليس بقائم بنيان قوم** إذا أخلاقهم كانت خرابًا! وقوله الشهير الذي نحفظه ونردده جميعًا: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا! حقا، إن قضية الأخلاق من أهم وأخطر القضايا في حياة الفرد والمجتمع والدولة، خاصة أنها ترتكز عندنا -نحن المسلمين- إلى الإيمان بالله تعالى، وليس إلى فلسفات مادية أو بشرية.
والذي ينظر إلى أحكام الشريعة الإسلامة، من عبادات ومعاملات وأخلاق وآداب، يجدها مرتبطة بشكل وثيق بالإيمان، فهو أس الفضائل، ولجام الرذائل، وسكن النفس إذا ما أوحشتها الحياة.. لذا، إذا وجد الإيمان الحقيقى، وجد معه الوازع الذي يسعى بصاحبه إلى العلا، فهو لا يكذب، ولا يخدع، ولا يغش، ولا يخون، ولا يجور، ولا يسرق، ولا يتدنى، ولا يرتشى، ولا يهمل، ولا يتكاسل أو يتراخى، ولا يأخذ ما ليس له حق فيه..
هو الصادق في قوله وفعله، العادل في حكمه، المحسن إلى من أساء إليه، الهين اللين، السمح العطوف، الإيجابي المتعاون، المتوكل لا المتواكل، والأخذ بأسباب العلم والتقدم.. وهو إذ يفعل ذلك ليس خوفًا من قانون أو رقابة من إنسان، حاكمًا كان أو مسئولا، وإنما خوف من خالقه ومولاه الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، رغبة فيما عنده سبحانه "الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير" (الملك: ١)، وإرضاء له تعالى الذي "بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه" (المؤمنون: ٨٨)، وتنفيذًا لأوامره جل وعلا الذي "لا إله إلا هو، كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون" (القصص: ٨٨)..
في كتابه (مائة سؤال عن الإسلام)، يقول شيخنا الغزالى: "هل أستطيع وصف رجل يخاف الناس ولا يخاف الله، ويسترضى الناس ولا يسترضى الله، ويتوكل على الناس ولا يتوكل على الله، هل أستطيع وصف هذا المخلوق بأنه مسلم؟"، ثم يقول: "وهناك جملة من أخلاق تقوم على محو النفاق وتزكية السريرة وتنضبط بها الأعمال والأحوال، نبه إليها النبى العظيم صلى الله عليه وسلم، الذي قال «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، أنه أحصى أمارات النفاق في الكذب وخلف الوعد وخيانة الأمانة ونكث العهود والفجور في الخصومة ! ماذا يقول المسلم إذا كانت مجتمعات أخرى أحرص منا على الصدق والأمانة والوفاء والسماحة؟"..
ولكى تؤتي السياسة في مجتمعنا ثمارها المرجوة (بناءً وتعميرًا، لا هدمًا وتخريبًا، رقيًا وتقدمًا، لا هبوطًا وتخلفًا، وحدة وقوة، لا تفككًا وضعفًا) لا بد من الأخلاق.. ولا أخلاق دون إيمان.. والإيمان هو أصل الدين ولبه.. ومقولة "لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة" يراد بها عزل السياسة عن أي مقومات أخلاقية، حتى تظل عملا قذرًا dirty work، كما يقول الغربيون.. نحن نريد أن نمارس السياسة على أسس نظيفة وقواعد أخلاقية سليمة، يتساوى فيها الجميع أمام القانون، ولا يساء فيها استغلال المال لمصالح أو أغراض ذاتية.. وإذا كانت تجربة "الإسلاميين" في المجلس التشريعى، وفى الحكم، مخزية ومخجلة، فضلا عن أنها تركت آثارًا مدمرة، وصورة ذهنية سيئة لدى الكثيرين، فقد كان ذلك بسبب عدم التزامها بأي معايير أخلاقية.
إن النفس الإنسانية يوم تكون نظيفة والقلب نقيًا طاهرًا، والإنسان موصولا بالله، ثقافة وأخلاقا وسلوكا، لن تجد قمامة في الشوارع وعلى النواصى، ولا فسادًا ينتشر في مجتمعنا كما النار في الهشيم، ولا تخلفًا أو ترددًا أو انهزامًا أو يأسًا أو إحباطًا، ولا أنانية أو انتهازية أو تملقًا أو مداهنة أو نفاقًا.. وإذا كانت السياسة تعرف بأنها إتقان فن الممكن، فهو الممكن الذي يتسق وقيم الإسلام العليا، فلا يحل حرامًا أو يحرم حلالا، هو الممكن الذي يدخل في إطار جلب المصلحة ودرء المفسدة.. والإتقان في هذه الحالة أمر محبب إلى الله تعالى، يرضاه ويشجع عليه، كما جاء في الحديث: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه".. والفن هنا بمعنى العلم بالشيء أو المعرفة به، وإدارته بمهارة وسهولة ويسر، اتساقًا مع قوله تعالى: "فاتقوا الله ما استطعتم"..