رئيس التحرير
عصام كامل

حكاية «أبناء الزعيم» الذين أذلوا الموساد بالقاهرة!


في صباح يوم حار من شهر يونيو 85، كانت سيارة الدبلوماسي الإسرائيلي زيفي كيدار، تتجه من بيته بالمعادي إلى مقر عمله بسفارة العدو الإسرائيلي على نيل القاهرة الخالد.. إلا أن طلقات رصاص سريعة عاجلته لتنهي على الفور مسيرة إرهابي عتيد.. وكالات الأنباء العالمية، طيرت الخبر إلى الدنيا كلها، وبدأت التحقيقات ووصلت إلى طريق مسدود!


انتهت القصة وأوشك الجميع أن يقتنع بأن الحادث تم بالخطأ أو لأسباب شخصية.. إلا أنه وفي أغسطس من العام نفسه، أرسلت طلقات سريعة أخرى دبلوماسيا إسرائيليا آخر إلى الجحيم.. اسمه ألبرت أتراكشي، وهو أيضا أحد رجال الموساد الذين يعملون في القاهرة تحت غطاء دبلوماسي!

أدركت كل الأجهزة في مصر وإسرائيل وأمريكا والعالم، أن ثمة تنظيما مسلحا وراء العمليتين.. إلا أن الدقة والتنظيم الجيد والتدريب والخبرة علامات تميز رجاله!

استقبل المصريون والعرب العمليات بابتهاج لا مثيل له، وخصوصا أن صحف المعارضة نشرت بيانات تنظيم غير معروف اسمه "ثورة مصر"، الذي أكد أنه يستهدف رجال الموساد في القاهرة، ومن البيانات أدرك الجميع أيضا أن العمليات غير عشوائية.. فألبرت أتراكشي مثلا كان يتلذذ في فقأ أعين الأسرى المصريين أثناء عمله في الجيش الإسرائيلي، وهو ما أكد أن التنظيم كبير ولديه معلومات كاملة، وهنا دارت الشائعات حول دعم بعض الأجهزة للتنظيم وثارت الكثير من الشائعات الأخرى منحت التنظيم بعدا أسطوريا!

في العام التالي، كانت العملية الثالثة حيث اعترضت إحدى السيارات سيارة رجال السفارة الإسرائيلية أثناء خروجها من معرض الكتاب بمدينة نصر، بينما قام آخرون بإطلاق الرصاص ثم غادروا المكان بكل هدوء، وسط دهشة وإعجاب الجميع!

وبعد أشهر كانت العملية الرابعة، لكنها هذه المرة طالت رجال المخابرات الأمريكية من العاملين بالسفارة الأمريكية بالقاهرة.. وهنا صارت ثلاثة أجهزة مخابرات كبرى تبحث عن التنظيم الغامض!

حل العام 87، ومرت ثلاثة أعوام من البحث عن التنظيم الذي تابعناه ونحن تلاميذ صغار، بدأنا العمل السياسي مبكرا جدا.. وفي المنتديات فجأة بدأ الهمس على أكثر من مستوى بأن الابن الأكبر للزعيم الخالد جمال عبد الناصر رهن التحفظ.. وفجأة عرفنا أنه سافر إلى يوغوسلافيا.. وأن الأخبار السيئة تقول إن التنظيم المجهول في قبضة الأمن!

توالت الأخبار المؤكدة.. قائد التنظيم هو رجل مخابرات مصري سابق عمل بالسفارة المصرية بلندن اسمه محمود نور الدين، وهو المتهم الأول.. الدكتور خالد جمال عبد الناصر، نجل الزعيم الخالد هو المتهم الثاني.. عصام نور الدين شقيق المتهم الأول، هو المتهم الثالث، وهو لخلافات مع شقيقه من خان الجميع، وأبلغ رجال السفارة الأمريكية!!.. وأن التنظيم يضم ضباطا برتب مختلفة من ملازم أول إلى عميد، ومعهم نجل السيد حسين الشافعي نائب رئيس الجمهورية الأسبق (قال وقتها تصريحه الشهير بأن القضية شرف ﻻ يدعيه وتهمة ﻻ ينفيها)، وأيضا ابن شقيق الرئيس عبد الناصر، والأخيران طبيبان ساهما في علاج جرحى التنظيم!

نقيب المحامين أحمد الخواجة، ترافع عن نجل الرئيس، وقيل إن الدولة هي من هربت خالد إلى يوغوسلافيا، بلد الزعيم اليوغوسلافي الكبير "تيتو"؛ للحرج من القبض على ابن عبد الناصر وفي قضية تخص مجرمين وجواسيس صهاينة، وقيل إنها تمت بضغوط عربية، ودافعت نقابة المحامين ومئات المتطوعين من المحامين المصريين والعرب عن أعضاء التنظيم.. إلا أن محمود نور الدين، قال إنه راض بما فعل رغم حياته المترفة، وإنه سعيد بالانتقام ممن عذبوا أسرانا وقتلوهم بدم بارد، وجاءوا للتجسس ونشر المخدرات والإيدز، وإنه فعل ما فعل لأن الدولة في حالة صلح مع إسرائيل، ولن تستطيع فعل شيء مع رجال السفارة، وقال إنه ألغى عمليات عديدة؛ خوفا من أن يصاب مصري واحد فيها (عكس الإخوان تماما).. وإن المصريين كانوا يحمونه ويساعدونه على الهرب بعد كل عملية، وكان هو يمنحهم صور جمال عبد الناصر وبيان منظمة "ثورة مصر الناصرية" كما أسموها، بل إن بعض السيدات زغردوا بعد إحدى العمليات.. وإنه لم يعرض الانضمام للتنظيم على أي من أعضائه ورفض، بل كلهم قبلوا على الفور، ومن أول لقاء، وكلهم يربطهم كراهية إسرائيل الانتماء الناصري، وكلهم يرون أنفسهم أبناء للزعيم الراحل جمال عبد الناصر!

أصبح رجال التنظيم أبطالا عند المصريين والعرب، رغم محاولات تشويههم بقصص وأكاذيب.. وحوكموا جميعا.. وحصل نور الدين على المؤبد بـ15 عاما، بينما حصل خالد عبد الناصر على البراءة، بعدما أنكر الجميع صلتهم به؛ لإنقاذه، وحصل الباقون على أحكام تتراوح بين عام وعشر سنوات، خرجوا الآن جميعا، واحتفت بهم القوى الوطنية، بينما حصل الخائن على 25 عاما، ويقال إن القاضي اعتبرها قضية وطنية، فحكم عليه بأقصى عقوبة وكان الوحيد الذي سعد المصريون بالحكم عليه، بخلاف رجال السفارة الأمريكية الذين وعدوه بالبراءة!!

مرت الأيام.. ومحمود نور الدين يمنح كل حين تصريحات وتسريبات.. مرة يوصي المصريين بالوحدة ومنها "الأقباط من لحمنا"، ويبشر بالنصر على إسرائيل.. وبعد أحد عشر عاما كاملة، قضاها البطل خلف الأسوار، وبينما يعد الكثيرون الأيام ليرونه خارج السجن، إلا أن خبر رحيله في مثل هذا اليوم 16 سبتمبر من عام 98، يسقط كالصاعقة على الجميع، ويشيعه الآلاف ببحور من الدموع في جنازة مهيبة، رغم الإجراءات الأمنية، ورغم شكوك الوفاة.

ويذهب كاتب هذه السطور إلى بيته لتقديم واجب العزاء إلى أسرته، ليدرك حجم الترف الذي كان يعيش فيه الرجل وتركه كله بكل ما فيه وترك ابنتين - تعيشان الآن في سويسرا - من أجل وطنه وشعبه وما آمن به!

المفارقة أن تمر الأيام ويتعرض الدكتور خالد عبد الناصر إلى مرض عضال.. لتصعد روحه إلى بارئها في 15 سبتمر من عام 2011، وقبل قليل من التوقيت نفسه الذي رحل فيه رفيق نضاله قبله بـ13 عاما كاملة، وكأن روحيهما أبت إلا أن تتعانق أيضا، والأولى تستقبل في دار الخلود.. الثانية!

يوم ما.. سيكتب التاريخ كله من جديد..
الجريدة الرسمية