رئيس التحرير
عصام كامل

تديين السياسة وتسييس الدين

 الفنان حسن البارودي
الفنان حسن البارودي

تظل شخصية «الشيخ حسن» التي أداها باقتدار الفنان حسن البارودي في فيلم «الزوجة الثانية» دليلًا حيًا وملموسًا على خطورة اقتحام الدين في السياسة، فحينها يصبح كل منهما مطية للآخر، أو طريقًا يصل من خلاله إلى ما يبتغى، متنازلا عن كل القيم والمبادئ، فعندما طلب منه العمدة أن يكتب كتابه على امرأة تم تطليقها منذ دقائق تعلل الشيخ حسن بوجوب انقضاء العدة، فما كان من العمدة إلا أن لكزه مذكّرًا إياه: البلد بلدنا والدفاتر دفاترنا.. اكتب يا شيخ حسن، فكتب الشيخ حسن وهو يردد: وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم.


فليس من الخفى على أحد أنه ما إن تدخل السياسة إلى العقيدة حتى تحولها إلى أيديولوجيا، وفارق كبير بين الإسلام دينًا وبين الأيديولوجيا الإسلامية؛ فالدين رحابة وسماحة وإنسانية وعدالة ورحمة وسلم، أما الأيديولوجيا فهى شمولية وديكتاتورية وتحزب وجنوح وعنف وقتل وإرهاب، الدين يقبل الجدال الحسن بل يدعو إليه، والأيديولوجيا ترفض أي خلاف في الرأى أو جدال ولو بالحق، أو معارضة وإن كانت على أساس سليم؛ فالإصلاح الحقيقى والإحياء الفعال لروح الإسلام يبدأ من الفصل بين الدين والسياسة، بحيث تكون السياسة عملًا بشريا غير مقدس ولا معصوم سواء جاء من جانب السلطة أم من جانب المعارضة فلا يقع خلط بين الدين والسياسة.

يقول المستشار محمد سعيد عشماوى في مقدمة كتابه «الإسلام السياسي»: «أراد الله للإسلام أن يكون دينًا وأراد به الناس أن يكون سياسة، والدين عام إنسانى شامل أما السياسة فهى قاصرة محدودة قبلية محلية ومؤقتة، وقصر الدين على الساسة، قصر له على نطاق ضيق وإقليم خاص وجماعة معينة ووقت بذاته، الدين يستشرف في الإنسان أرقى ما فيه وأسمى ما يمكن أن يصل إليه والسياسة تستثير فيه أحط ما يمكن أن ينزل إليه وأدنى ما يمكن أن يهبط فيه، وممارسة السياسة باسم الدين أو مباشرة الدين بأسلوب السياسة يحوله إلى حروب لا تنتهى وتحزبات لا تتوقف وصراعات لا تخمد وأتون لا يهمد، فضلًا عن أنها تحصر الغايات في المناصب وتخلط الأهداف بالمغانم وتفسد الضمائر بالعروض لكل أولئك، فإن تسييس الدين أو تديين السياسة لا يكون إلا عملا من أعمال الفجار الأشرار أو عملا من أعمال الجهال غير المبصرين، لأنه يضع للانتهازية عنوانا من الدين ويقدم للظلم تبريرًا من الآيات ويعطى للجشع اسمًا من الشريعة ويضفى على الانحراف هالة من الإيمان، ويجعل سفك الدماء ظلمًا وعدوانًا عملا من أعمال الجهاد، وعلى المستوى الشعبى فإن الخلط بين الدين والسياسة فرق المسلمين شيعًا وفرقًا، كل منها يعتصم بآيات من القرآن ويتحدى بأحاديث للنبى صلى الله عليه وسلم، ويحتمى بآراء قادته ويتحامى بفتاوى فقهائه فقامت خصومات شديدة بين هذه الشيع والفرق، ظاهرها الدين وباطنها السياسة، دعواها الشريعة وحقيقتها السلطان، وصار الاتهام بالكفر والإلحاد والفساد في الأرض اتهامًا شائعًا من كل فرقة للأخرى، ومن كل شيعة للشيعة المخالفة، وفى ذلك أبيح دم الجميع وأهدرت حرمات كثيرة».

يقترب من وصف المستشار محمد سعيد عشماوى الجماعات السلفية التي أقحمت نفسها في أمور السياسة فكانت المواقف المتناقضة التي أثارت حنق العامة عليهم، فوصفوهم بطالبى دنيا وليسوا بطلاب دين أو آخرة، فظهر من بعضهم موقف متزلف من السلطات الحاكمة وأجهزتها المختلفة، وهو موقف يجنح إلى التفريط ومرافقة الإنصاف، مع ما يستتبعه هذا المنهج من هجوم حاد وتجريح مؤلم معارض بزعم أنه من الخوارج، ومنهم من أفتى بأن العمالة لأمن الدولة واجبة، وآخر أفتى بقتل كل من قدم نفسه للترشح أمام ولى أمر المسلمين الشرعى الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك، ورغم أن السلطة هي التي فتحت الباب لكل من أراد أن يقدم نفسه في الانتخابات، إلا أنه رأى أن كل من تجاسر على النزول في الانتخابات أمام الرئيس فهو من الخوارج ويستحق القتل، وكان التطبيق العملى لفتواه أن طالب بقتل الدكتور محمد البرادعي.

ورثة الإخوان
ويفند الدكتور محمد حافظ دياب، في مقاله المنشور «تناقضات التيار السلفي»، مزاعم السلفيين قبل ثورتى يناير ويونيو وبعدهما، فيقول: «يمكن استبانة هذا التناقض جليا منذ قيام ثورة 2011، مع محاولة التيار في البداية التبرؤ من (نية) العمل السياسي، واعتباره من «المفاسد»، وصولًا إلى تشكيله تاليا لأحزاب سياسية، وقبل ذلك، مارست الدعوة السلفية اشتغالها بالسياسة، من خلال دعوتها إلى مقاطعة الانتخابات البرلمانية إبان حكم مبارك.

وينوه هنا إلى، أن هذا التيار وجد في الأعوام الثلاثين لنظام مبارك، فرصة لعزلة اختيارية، رآها مناسبة لإنجاز مشروعه، خاصة أن المواجهات العنيفة بين أجهزة الدولة الأمنية وجماعتى الإخوان والإسلام الجهادى أدت إلى ظهور بعض من التوافق، وربما التسامح الأمني والسياسي مع بعض الجماعات السلفية، التي كانت تدعى أيامها الابتعاد عن العمل السياسي المباشر، والتركيز على العمل الدعوى والتربوي، وهو ما فتح الأبواب أمامه ليتجول في كافة المناطق، وينشر فيها أفكاره عبر قوافل الدعوة والندوات الدينية، فيما كانت أجهزة الأمن تعرف أماكن تواجده، لكنها كانت تغض عنه الطرف.

وعقب ثورة يناير 2011، برز التيار كقوة سياسية واجتماعية، وكان له دور الحشد في استفتاء مارس، وهو الاستفتاء الذي ضلل فيه المصريين بأن من يقول «نعم» سيدخل الجنة.
وفى محاولة لركوب موجة الثورة، دأب على إقصاء «الآخر»، وهو ما بدا في سيطرته على بعض من مساجد الأوقاف، واتهام الأزهر بالفساد في موالاته للدولة، ووصمه الطرق الصوفية بأنها تعمل على خدمة ما أسماه «مخططات أمريكية لفصل الدين عن الدولة، وإقصائه نهائيا من الحياة السياسية»، وبأنها تتولى نشر الخرافة والدجل، وإلصاقهما بالدين الإسلامي.
المرأة أكبر معضلات السلفيين
إن المرأة داخل تيارات الإسلام السياسي في مصر خاصةً التيار السلفى تم دفعها دفعًا لدخول الساحة السياسية ليس بسبب إيمان هذه التيارات بحقوق المرأة، ولكن بسبب الضرورات التي تقول إن المرأة تمثل جزءا كبيرا من المجتمع المصري، يؤثر على نتائج العملية السياسية سواء رضى هذا التيار أم لا.

ولكن سنرى أن دخولها قد أضر بقضية المرأة ككل، حيث إنه وبسبب قدرتهن على التحرك ساعدن في نشر أفكارهن الرجعية والمضادة لحقوق المرأة داخل قطاع كبير من النساء، وبالتالى إعادة تدوير الأفكار الرجعية والتي تخدم تيار الإسلام السياسي ككل.
ففكرة مشاركة المرأة كفاعل أساسى في العمل السياسي بالنسبة لتيار الإسلام السياسي هو شيء مناف لأفكارهم، خاصةً تلك الأفكار التي تحرم طوال الوقت وجود المرأة في الشارع، وتحركها وتؤمن بمبدأ أن «صوت المرأة عورة».

والمشاركة السياسية للمرأة السلفية بشكل عام شيء مستحدث، فالسلفيون بعد صعودهم عقب ثورة 25 يناير أصبحوا في مأزق بين أفكارهم التي تحرم ترشح المرأة، وبين قانون الانتخابات الذي فرض وجود المرأة على قوائم الترشح، وهنا جاءت آراء شيوخ السلفية التي وصفت ترشح المرأة للبرلمان بـ«المفسدة»، وقالوا: «لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة»، وأشاروا إلى أن الأحزاب السلفية سترشح عددًا من السيدات «اضطرارا» على قوائم أحزابهم في الانتخابات البرلمانية المصرية المقبلة؛ بسبب اشتراط القانون وجود امرأة في قوائم الأحزاب.

وعن عدم شرعية دخول المرأة البرلمان يقول أحد فقهائهم إن له صلاحية عزل وزارة أو رئيس الجمهورية، وله سلطات تشريع قانون، ولا يجوز أن تدخله المرأة؛ لأنه يعتبر ولاية منها على الرجل، لكننا وافقنا مجبرين ومضطرين؛ لأن رفضنا معناه ترك الساحة والخروج من المشهد وترك البرلمان المقبل لمن يخربون البلاد، وإن مفسدة ترشح المرأة البرلمان أقل من مفسدة ترك المشهد لمن يريدون تغيير المادة الثانية من الدستور، وتغيير هوية الأمة، فلا يجوز تولى المرأة الولاية، لكننا نحتمل هذا من باب الخروج على الثوابت لأجل المصلحة.
وقد شهدت قوائم بعض أحزابهم مهازل من أول وضع المرأة في ذيل القائمة، مرورًا بعدم كتابة اسمها على قوائم الدعاية واستبدالها «بزوجة فلان»، واستبدال صورتها بوردة.

ويسوق التيار السلفى آراء فقهية كما يقولون حول تحريم ترشح المرأة، منها أن الأصل الذي أثبته القرآن الكريم أن الرجال قوّامون على النساء، وأن ترشح المرأة للبرلمان يقلب الوضع، وتصبح بالتالى النساء قوّامات على الرجال.
ثانى الأسباب التي يسوقها التيار السلفى لرفض وجود المرأة كمرشح للبرلمان هي مهمة «التشريع ووضع القوانين»، فهم يرون أن هذه المهمة أخطر من الولاية والإمارة فهى التي تشرّع للدولة، لينتهى إلى أن هذه المهمة الخطيرة لا يجوز للمرأة أن تباشرها وإجمالا فإن رجل الدين الذي يسيس الدين لمصالحة الشخصية سوف تبقي موجودا حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
الجريدة الرسمية