لماذا أنا جبان؟
بإمكاني السير في فلك السائرين من «المناضلين»، و«الثوريين» وأكتب - الآن - صفحات ومجلدات عن جرأتي، وشجاعتي، وبطولاتي في مواجهة الفاسدين والمنحرفين من المسئولين وأرباب السلطة.. لكني لن أفعل.. سأكون متسقًا مع ذاتي، قدر الإمكان.
في طفولتي كنت أصارع الخوف، أقتحم الأماكن المظلمة ليلًا، رغم تحذيرات أقراني من «أبو رجل مسلوخة»، وعندما كنا نلعب «استغماية» أو «عسكر وحرامية» كنت أختبئ بين «المقابر»، ولم أأبه بحكايات وأساطير أهالي القرية عن وجود «الجن» و«العفاريت».
لم يكن يرهبني شيء - حتى الموت - لكن عندما عرفت قيمة «الحياة»، بدأ الخوف من الفناء يتسلل إليَّ.
كنت شجاعًا عندما كانت جيوبي خاوية؛ لاطمئناني أن هناك «أبا» ينفق عليَّ، لكن عندما توليتُ الإنفاق على نفسي، صرتُ أخشى الفاقة.
«الصحفي يجب أن يكون شجاعًا»، سامح الله قائلها.. في بداية حياتي الصحفية كنتُ شجاعًا بما يكفي، لم أستجب لنصائح أمي: «امشي جنب الحيط»، و«ابعد عن الشر وغني له»، رغم أنها لم تكن تفعل ذلك.
حينئذٍ كانت أفكاري منطلقة، وقلمي متحررا.. لم تكن لديَّ حسابات، وتوازنات، ومواءمات مع المصادر.. كنتُ مندفعًا بفورة الشباب، محاولًا تطبيق ما تعلمته: «الصحافة تنوير، وتثقيف، وكشف الحقائق».. لكني اكتشفت أن للصحافة معاني أخرى، غير تلك التي تعلمتها!
ظللتُ مناضلًا مع زملائي «السناجل»، مدافعًا عن آرائي وتوجهاتي وأفكاري، حتى ولو كان الثمن «الفصل من الوظيفة».. لم أحسبها - يومًا - بالورقة والقلم، فدائمًا ما كانت في قلبي الآية الكريمة: «ورزقكم في السماء وما توعدون».
تخطيتُ الثلاثين، وانتقلتُ من مرحلة «محلك سر»، إلى «التقدم إلى الخلف»!
«الزواج يمنحك قوة المواجهة».. استجبتُ لنصيحة أمي وتزوجتُ، وبعد انتهاء شهر العسل، وعودتي إلى العمل لم أر أثرًا لهذه القوة، فيداي صارتا مرتعشتين، وأفكاري أمست مقيدة، وقلمي لم يعد منطلقًا متحررًا كما كان في السابق.. وبعد عدة مشاكل، عرفتُ معنى المواءمات، مبررًا لنفسي ما كنتُ أرفضه من قبل.. «قليل من التنازل لا يضر»، «حافظ على أكل عيشك»، «مش كل شوية تتنطط في مكان»، «بلاش عشانك، أنت مابقيتش لوحدك»!
آه.. اللعنة على الزواج.. فأنت لست وحدك؛ لتتحمل حماقة تصرفاتك بمفردك، وإنما هناك مَنْ تنتظرك بالبيت، وأنت داخل عليها بـ«المرتب».
صرتُ أركن إلى «الجبن» عندما تزوجتُ، وصرتُ «جبانًا» مع استقبالي المولود الأول، وأصبحت «أكثر جبنًا» مع الثاني، وأمسى «الجبن» يسري في دمي منذ أن جاء طفلي الثالث إلى الدنيا.
«الصدق منجاة»، و«الصراحة راحة»، مقولتان ليتني ما سمعتهما، فلا أخفي عليكم أني تحولت - في كثير من الأحيان - من «وزير» في رقعة الشطرنج، يتحرك كيفما شاء، إلى مجرد عسكري «مهاود» يتقدم الصفوف، ينفذ التوجيهات، وتتم التضحية به في أقرب فرصة.
ولا أخفي عليكم أيضًا، أني أعكف الآن على قراءة كتب تعليم فنون «المداهنة، والانبطاح، والتطبيل، والتثبيت»، وكم من مرة حدثتني نفسي لتطبيق نظرية «الزمبقة في علم الخزوقة»؛ للترقي إلى المناصب العليا، على حساب «الودعاء الطيبين الموهوبين»، لكني لم أفعل، ليس عن قناعة تامة، لكن لعدم إتقاني هذا الفن!
ولأعترف الآن: كلما زاد رصيدي في البنوك، واتسعت شهرتي، ازددتُ خسة وجبنًا.. فصرتُ بارعًا في الكتابة بطريقة «يا نحلة لا تقرصيني، بس عاوز عسل منك».. صرتُ أتشدق بـ«المهنية» على الورق، وبـ«النزاهة» أمام الكاميرات.. صرتُ أكثر ميلًا لإرضاء النظام، والتسول على عتبات السلطان.. صرتُ أهتف مع الهاتفين: «عاش الملك».. فأولادنا - يا سيدي - رغم أنهم زينة الحياة الدنيا، إلا أنهم علمونا «الانحناء»، بل أجبرونا عليه.