رئيس التحرير
عصام كامل

التعليم.. وخريج برتبة «إنسان»



ربما نختلف كثيرا حول توجهات "تركيا" نحو سياسات المجتمع المصري ونعترض أكثر على تدخلها السافر في شأننا.. ولكن هذا كله لا يمنعنا من محاولة الاستفادة من تجربتها النهضوية الحديثة ولاسيما في مجال "التعليم" باعتبار التعليم هو القضية المحورية والمحك الأساسي للخروج من أزمتنا الحضارية الراهنة..التي تعيشها البلاد منذ منتصف القرن العشرين؛ حيث اتجهت سياسة التعليم في عهد عبد الناصر إلى "الكم" بغض النظر عن جودة التعلم.. فتبنت حكوماته مشروع إنشاء 400 مدرسة في العام بواقع مدرستين في اليوم الواحد وعلى مدى عشر سنوات.. فخلفت هذه السياسة جيشا من حملة الشهادات ولكن برتبة "عواطلية"!!


وربما دعوتي لمراجعة التجربة التركية في التعليم ومحاولة السير في دربها لا يأتي من فراغ.. نظرا للتقارب الثقافي والحضاري بين الدولتين؛ فكثيرا ما تتشابه أو كانت أوجه التشابه في الخصائص الإنسانية بين الشعبين قريبة إلى حد كبير.. ورغم ذلك فقد جاءت مصر في ذيل قائمة الدول من حيث جودة التعليم.. وأنها حصلت بجدارة على لقب "أسوأ دولة في نظام التعليم الأساسي" لعام 2015م.. وذكر هذا اللقب ليس دعوة منا للاكتئاب وفقدان الأمل.. بل ربما يكون دعوة جادة لإحياء الإرادة المصرية ودعوتها لعدم الاستسلام.. فتركيا مثلا كان ترتيبها من حيث "نظم التعليم" 42 عام 1981م.. بيد أنها استطاعت في 2008م أن تصل إلى رقم "18"!

وعلى مدى عشر سنوات تزايدت أعداد الجامعات التركية من 76 إلى 170 جامعة.. ولديها خطة طموحة ليصل عدد الجامعات بها إلى 500 جامعة بحلول عام 2023م..تعتمد في "تمويل" برامجها على الوقف والأعمال الخيرية. وتحظى الشهادات الجامعية التركية باعتراف من 176 دولة حول العالم. وتم اختيار 6 جامعات منها ضمن قائمة أفضل 500 جامعة عالمية؛ مما يعطى للتعليم في تركيا أهمية خاصة. وذلك بعد أن أصبحت تركيا قبلة لكثير من طلاب العلم، الذين وصل عدد الوافدين إليها 50 ألف طالب جامعي.. ومن ثم تتميز تركيا بنوع جديد من السياحة يمكن أن نُسمِيه بـ" سياحة التعلم"!!

علما بأن هذا النوع بالتحديد من السياحة يسهم بشكل كبير في تنشيط "الاقتصاد السياحي" بوجه عام.. ويخلق نوعا جديدا من مشاعر"الولاء" لهذه الدولة بالتحديد..فغالبا ما يَحن طلاب العلم إلى مجالسهم ويتحولون بطبيعة الحال إلى "سفراء" غير مأجورين لمواطن التعلم!!

ولعل هذا النوع بالتحديد من السياحة أيضا هو ما جعل "سنغافورة" رابع أهم مركز مالي في العالم.. حيث إن 42% من سكانها من الأجانب الوافدين للدراسة.. وهو ما جعلها أيضا تحقق طفرة اقتصادية غير مسبوقة؛ فبعد انكماش في الربع الرابع لعام 2009 الذي وصل إلى -6.8%؛ استعادت سنغافورة تنامي اقتصادها في النصف الأول من 2010 لتصبح أسرع دولة في إنعاش اقتصادها بنمو وصل إلى 17.9%.. وهذا ما يجعلنا نشدد بقوة على فتح الأبواب على مصراعيها أمام "سياحة التعلم"؛ ليصبح التعليم قيمة مضافة وليس عبئا اقتصاديا على كاهل الأسرة المصرية!!

وفى الوقت الذي افتقدت فيها سياسات التعليم في مصر إلى "الرؤية" والهدف وباتت فيه الجامعة مجرد مؤسسة لمنح شهادات علمية وطنية، يتم التعليم فيها في جزر منفصلة عن سوق العمل واحتياجات الواقع المقيت.. تمكنت الجامعات التركية من تطبيق أخلاقية "استقلال الجامعات" كما تمكنت من الأخذ بإستراتيجية "الحلول المتزامنة المتعددة الخلاقة" والتي تضمن إعداد المناهج التعليمية وفق احتياجات المجتمع وأزماته وقضاياه، من أجل تخريج طالب تفاعلي يلامس قضايا المجتمع، وبإمكانه تقديم الحلول المتزامنة والمتعددة والخلاقة في آن واحد.. ليس هذا فحسب؛ بل تضمن الوصول إلى خريج برتبة مواطن عصري تفاعلي دولي!!

وذلك لن يتحقق إلا بإعادة تعريف الجامعة ليعيدها إلى سابق عهدها كـ "بيت الحكمة" في بغداد أو "دار الحكمة" بالقاهرة " لتصبح الجامعة بوتقة تنصهر فيها "أفكار" الباحثين وتتوالد فيها "إبداعات" الموهبين.. ومن ثم فيجب على الجامعة أن تمنح طلابها الحرية الكاملة في التعليم والتعليم في بيئة آمنة ومستوى معيشي مناسب.. جامعة تقوم على "الشراكات" مع الجامعات الأوربية وغيرها في نظم التعليم والمناهج والاختبارات..

ومن ثم فلابد أن ننظر للجامعة باعتبارها "فضاء" يأوي طائفة من الباحثين، يتقاسمون فيما بينهم ما يتعلمونه مباشرة". دون اعتبار للشكل الرسمي، ولا للشهادة التي تقدم، ولا للجانب القانوني؛ فكل هذه الأمور شكلية حتى وإن وُجدت في مؤسسة ترقى بها إلى مستوى الجامعة، فكم من مركز للبحوث "صغير" الحجم، "قليل" العدد- لكنه يُنتج من المعارف ما لا تنتجه جامعات كبرى!!
الجريدة الرسمية