وزارة الثقافة.. ولا ثقافة!
حتى وقتٍ قريب، كانت أحوال الثقافة المصرية مزدهرة بعض الشيء! حتى في أيام الراحل سمير سرحان، عندما كان رئيسًا لهيئة الكتاب، كانت مكتبة الأسرة شعلة نشاط، وخلية نحل، ففي كل يوم إصدار جاد جديد! وعناوين مختلفة لأسماء من أقصى اليسار، ومن أقصى اليمين، ومن يسار الوسط، ومن يمين اليمين! أجل، لقد نشر سمير سرحان لمعارضي النظام وقتها! بل إنه نشر مؤلفاتٍ أثارت بلبلة داخل النظام والكنيسة والأزهر، ككتاب "التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام" للشيخ محمد الغزالي، ردا على كتاب جاك تاجر "أقباط ومسلمون منذ الفتح العربي إلى عام 1922م" الذي صدرت طبعته الأولى في الستينات من القرن الماضي! بل كانت الثقافة أيام فاروق حسني منتعشة وفتية وتتطلع إلى الغد!
أما اليوم، فحال مكتبة الأسرة خصوصًا، والنشر في وزارة الثقافة بفروعها المتشعبة عمومًا، بات حكرًا على الحبايب والمحسوبية والشللية والأصحاب وزمرة المطبلين وجوقة أحمد مجاهد قبل إقالته وبعد رحيله! فرجال الحزب الوطني وزبانية الإخوان، مازالوا يسيطرون على مقاليد الوزارة، ويمنعون الآخرين من مجرد المرور على كورنيش النيل في رملة بولاق! بل إنهم يتصارعون فيما بينهم، فهناك أجنحة للحمائم، وأخرى للصقور! والدليل تلك الحرب الباردة الخفية بين رجال عز الدين إسماعيل في الوزارة (أحمد مجاهد) ورجال جابر عصفور (حلمي النمنم) ورجال صابر عرب (عبد الواحد النبوي، وعبد الناصر حسن)!
ويكفي للتدليل على سوء الأوضاع الثقافية، أن الكاتب الصحفي حلمي النمنم رئيس دار الكتب والقائم بأعمال رئيس هيئة الكتاب حاليا، قال لي، بعدما شكوت له سوء حال، ومآل مكتبة الأسرة، ورفضها نشر كتابي «مصر المؤمنة وكيف نجّاها الله من غدر الإخوان» دون فحصه وقراءته! فرد قائلًا بكلام غريب عجيب مريب: «اللجنة لها رئيس هو الدكتور فوزي فهمي، وهو صاحب الرأي الأول والأخير فيها، ورأيه هو الذي يُنَفَّذ، حتى دون فحص»! هكذا أصبح فوزي فهمي حاكم الثقافة الجديد الوحيد، ومانح العطايا حسب أهوائه ومزاجه، ومانع الهواء الثقافي عن المصريين، لو أراد، فهو لا يُسأل عما يفعل، وهم يُسألون!
فرحمة الله على سمير سرحان، وأسبغ على روحه نسائم الغفران، فلم يكن قامعًا للإبداع، ولا مانعًا للنشر، ولا محتكرًا لسوق النشر الحكومي، كحال حبايبنا الآن في مكتبة الأسرة، وفروع النشر الأخرى في هيئة الكتاب، والمجلس الأعلى للثقافة، وهيئة قصور الثقافة، والثقافة الجماهيرية، وصندوق التنمية الثقافية، وغيرها من الاحتكاريات الجديدة، للأسف الشديد، في زمن الرئيس الوطني "السيسي"، نصير الشعب، ومنقذه من مصائب الإخوان الانتهازيين، ومن مدّعي الثقافة، ومحتكريها، وسماسرتها، وتُجّارها، والعابثين بأحوالها، من أنصار الحزب الوطني المنحل!
أجل، فوزير الثقافة الحالي أكاديمي نيته حسنة، لكنه بلا خبرة في العمل الثقافي، وليس لديه مشروع لإحداث النهضة الثقافية المرجوة، كما فعل ثروت عكاشة من قبل، رحمه الله! فقد ترك الأمور تسير كما هي، بالمجاملات والصداقات والمحسوبيات!
ولذلك فقد ماتت الثقافة في أيامه، كما ماتت أيام جابر عصفور الذي حوَّل الوزارة إلى بوتيك للـ«الحبايب، والأصدقاء» فقط، فقضى على الثقافة! وهو الذي يزهو دائمًا بأنه تلميذ طه حسين النجيب، والجالس على كرسيه إلى الأبد! وأنه أكبر مثقف في بر مصر! في حين أن جابر عصفور طلَّق النقد والأدب بإرادته، منذ نال أطروحته عام 1973م، واكتفى بالمناصب والجوائز والنياشين وورشته التي يجمع له فيها بعض الطلاب، ما يحتاج من أفكار وبحوث وأوراق! فأين هو من طه حسين؟! وأين إنتاجه العلمي الرصين؟! وأين مشاريعه الثقافية؟! وماذا صنع لانتشال مصر حضاريا وفكريا، عندما جلس على كرسي الوزارة؟!
والدليل أنه رسب بامتياز، عندما آلت إليه أحوال مصر الثقافية، واكتفى بالدخول في معارك واهية مع الأزهر، ووزارة الأوقاف، وتناسى أنه مثقف يجب عليه إعادة رسم سياسة مصر الثقافية بصورة علمية، فلا مصادرة لأحد، ولا إقصاء لفصيل، ولا منع لإبداع، ولا احتكار لسلطة النشر، بل الجميع أبناء هذا الوطن، والنشر للأصلح، والأجود!
فلا جرم أنه كغيره من رجال وزارة الثقافة، اكتفوا بالظهور بالبدلات الشيك، والتلميع الإعلامي، والفبركة، والضحك على الناس، باسم التنوير، الحداثة، ما بعد الحداثة، نقد النقد، قصيدة النثر، الأدب النسوي، زمن الرواية، أدب العامية، الترجمة، تثوير النص، والتناص! وللعلم، فلا نقد، ولا أدب، ولا ثقافة، ولا شعر، ولا فكر على الإطلاق! فقد أمات جابر عصفور، صلاح فضل، محمد عبد المطلب، عبد المعطي حجازي، أحمد مجاهد، عبد الناصر حسن، عماد أبو غازي، محمد بدوي، صابر عرب، فوزي فهمي، هدى وصفي، حسن طلب، وغيرهم.. الثقافة، وأعطوها جرعة الوفاة الإكلينيكية الفجائية القاضية! كما أماتها الإسلاميون أيضًا: سيد قطب، محمود شاكر، محمد قطب، فهمي هويدي، محمد عمارة، أبو الحسن الندوي، طه جابر العلواني، سليم العوا، القرضاوي، عبد القدوس أبو صالح، عماد الدين خليل، جابر قميحة، محمد أبو موسى، وهلم جرا، باسم الأدب الإسلامي، وبالسكتة القاتلة!
وللتدليل على أن الأمر مجرد سبوبة ومصالح وتربيطات وفوائد جمة، أن الوزير الأسبق صابر عرب، استقال قبل عامين من الوزارة، ليتسنى له نيل جائزة مصر في العلوم الاجتماعية، ثم رجع من جديد وزيرًا، بعدما نالها! وجابر عصفور نال جائزة القذافي، ومقدارها مليون يورو عام 2009م، ولما قامت الثورات العربية، وأُطيح بالقذافي، رفض "عصفور" التنازل عن الجائزة، بعنجهية متغطرسة! وتناسى ما أوجع رءوسنا به من كلمات: الديمقراطية، حقوق الإنسان، دور المثقف في التغيير، قيم المساواة، العدل، الحرية، ومقاومة الظلم والظالمين!
فلعنة الله على ثقافة التجهيل، التمكين، الاستحواذ، الاستعراض، الاحتكار، ومحاربة الموهوبين، لصالح فصيل الحزب الوطني الآبق، والإخوان الغادرين! فالإخوان أرادوا التمكين لأزلامهم في كل شبر في مصر! وبقايا الحزب الوطني يحاولون السيطرة على مصر ثقافيا، وتكميمها فكريا، وقتلها إبداعيا، وحلبها حضاريا! فأنّى لهم ذلك؟!
وقضى الله على هذا الفريق، فريق الادعاء، المسخ، الجمود، والتبعية الذليلة للغرب، بلا أية نية للتطوير، والتحديث، والنهضة! فالإخوان مجرمون أفّاقون مغرضون، والتغريبيون جاهلون تجهيليون متعصبون! وهكذا ضاعت مصر الوسطية بين هذين الفصيلين المتناحرين!
ولكِ الله يا مصر؛ من هؤلاء، وأولئك!