رئيس التحرير
عصام كامل

حقًا.. إنه شعب «مُستَكِين»؟!


لم ترتبط عبودية الإنسان المصري لحاكمه – فقط - بالعصر الفرعوني، الذي انقسم فيه المجتمع إلى "آلهة" تحكم و"عبيد" تخدم.. فكلاهما مصري.. ولكن "العبودية" ذاتها فقد عرفها المصريون إبان العصر "البطلمي" حيث رفض "بطليموس الثانى" أن يُقِر دستورا واحدًا للمصريين والإغريق، ولكنه أعد لكل منهما دستوره الخاص.. فأعد للإغريق ولباقى الجنسيات، دستورًا لا "يُؤلِه" الحاكم، ويضمن لكل إغريقي حقه في خيرات البلاد.. بينما أعد للمصريين دستورا آخر" يُؤلِه "الحاكم و"تَسلِبُ" الشعب كل أشكال الحرية.. وعندما سُئِل "بطليموس الثانى" عن السبب، أجاب: "من الصعب أن تمنح الحرية لشعوب ظلت مئات السنين تحت وطأة العبودية"!!


وكان البطالمة هم أول من طبق "نظام الالتزام" في جمع الضرائب. وهم أيضًا أول من استخدم مصطلح "الاقتصاد الموجه"، وهم أول من "نفى" المصريين في القرى وجعلوا المدينة حكرا على الإغريقيين..وهم أول من أجروا أرض مصر للمصريين وفرضوا الضرائب على عوائدها.. وهم أول من فرضوا ضريبة "التداول" على نقل السلع والممتلكات وفرضوا رسوما على توثيق العقود.. هم أول من أشعر المصريين بأن مصر ليست وطنا يملكونه وإنما يجوز لهم حق "الانتفاع" بموارده المحدودة..!!

ولم يختلف "الرومان" كثيرا عن البطالمة في معاملة المصريين. فبالإضافة إلى شراستهم في جمع الضرائب وتنوعها، كان الرومان يعتبرون المصريين من الأجانب المستسلمين، ولم يسمحوا لهم بممارسة أي حق من حقوقهم السياسية، كما لم يعطوهم الحق في تطبيق نظمهم وعاداتهم المحلية إلا بموافقة "الوالي" الروماني، وأصدروا "فرمانات" تحظر تعامل المصريين بالقانون الروماني الذي يتعامل به الإغريقيون في مصر ومنعوا المصريين القرويين من "الزواج" من المدن التي يقطنها الإغريق..واتبعوا مع المصريين سياسية "حَلب الشعوب" حتى الموت.. فلا ينسى التاريخ المصري رسالة الإمبراطور الروماني "تيبيريوس" إلى حاكم مصر والتي قال له فيها: "أُريد أن نُجَزَ صوف شياهى إلى أن تُسلَخ جلودها أحياء".. ومن ثمَّ فلم يختلف حال المصريين كثيرا عن حال "شياههم"!!

وليس اختلاف "الدين" أو العقيدة هو من جعل المستعمرين يستعبدون الشعب المصري، ولكنه بالعكس.. ففى كل عصر من عصور الاستعمار حرص المستعمرون على منح المصريين الحرية الكاملة في ممارسة طقوسهم الدينية.. وكأنهم يدركون جيدا أن المصريين من الممكن أن يتحملوا مرارة "العبودية" وقسوة الجوع والعطش، ولكنهم يتحولون إلى "وحوش" متى اقترب أحد من عقيدتهم!

فقد كان "الدين" ولا يزال هو مفتاح شخصية الإنسان المصري ومن يملكه؛ يمكنه أن يستعبد هذا الشعب!

ومع تطور الأيام والسنون لم تتحسن أحوال المصريين، لكنها كانت تزداد سوءا بعد سوء؛ فقد كان الحكام دائما يُتهَمُون بالثورة من أجل "التغيير".. ولكنه التغيير الذي لا يخدم مصلحة الوطن، وإنما يخدم مصالح الحكام أنفسهم.. فكان الحكام يتفننون في حفر الترع وشق الجسور واستصلاح الأراضى لفرض مزيد من الضرائب على المصريين، وممارسة عديد من الاحتكارات على سبل معيشتهم.. فكان الحكام دائما "ثائرين" على شعب أفضل ما يوصف به أنه شعب "مستكين"!

كما لم تختلف دوافع الحكومات المصرية "المعاصرة" في فرض الضرائب عن سياسات "المستعمرين".. ففي حين برر "محمد على" وأبناؤه من بعده أسباب فرضهم لحزم الضرائب الباهظة؛ برغبتهم في سد "عجز الموازنة" دون النظر إلى أوضاع المواطن ولا إلى أوجاعه.. فقد كانت ولازالت التنمية في مصر"تُمَول" من جيوب المواطنين، الذين يدفعون يوميا فاتورة المياه في بلد "النيل".. ويدفعون فاتورة الكهرباء في بلد "السد العالي" ويدفعون ضريبة عن الأعمال التي يشتغلونها وأخرى عن المساكن الذي يعيشون فيها.. وأتصور أن في الأيام القادمة ربما يطالب المصريين بدفع ضريبة عن "الجنسية" المصرية التي يحملونها!

وربما يتهمنى البعض بالتحامل على سياسات الحكومات المعاصرة؛ مدعيًا أن أحوال المصريين في العصور الحديثة كانت أفضل حالا من العصور "الظلامية".. وأن "الدين" لعب دورا كبيرا في تخفيف قسوة العبودية.. والحقيقة أن "الدين" لم يكن له دور يُذكر.. فقد "حَرَقَ" الرومان وهم "مسيحيون" أقباط مصر ورهبانها.. وأن عصر محمد على نفسه شهد فرضا للضرائب أضعاف تلك التي فُرِضَت في عصر "البطالمة" مثلا.. وازداد الأمر حدة في عهد ابنه "إسماعيل" الذي اعتبر الضرائب مصدرا مهما للثروة، ووسيلة آمنة وسهلة في سداد الديون الخارجية.. ووصل الحال بالخديو إسماعيل أن استحدث جملة من الضرائب التي عُرفت بالضرائب "الاستفزازية".. حيث فرض ضريبة "للزواج" فلا يستطيع الرجل أن ينهى إجراءات زواجه دون دفعها.. كما استحدث شكلا آخر للضرائب على "الأموات" حتى يتم دفنهم!

وفى هذا السياق يقول أحد المؤرخين: إنه شاهد جباة الضرائب يعترضون سير "جنازة" في أحد الشوارع، ثم تقدم كبير الجُباة وأمر بإنزال النعش عن أكتاف المشيعين؛ حتى تدفع الضريبة التي كانت مستحقة على الميت؛ فصاح المشيعون أن "لعنة الله على الخديو في كل كتاب"، فأخذت الشهامة أحد المشيعين فأعطاهم الضريبة !!
حقا أنه شعب من "الفولاذ".. ولكنه مُستَكِين!!
Sopicce2@yahoo.com
الجريدة الرسمية