نازك الملائكة تكشف كواليس كتابة قصيدة «الكوليرا»
«الكوليرا» هي من أشهر قصائد الأديبة العراقية نازك الملائكة، والتي تحل ذكرى ميلادها اليوم، غير أن تلك القصيدة تمتلك قصة غريبة، ترويها نازك في كتاب «نازك الملائكة.. لمحات من سيرة حياتي وثقافتي»، فتقول:
«في يوم الجمعة 27 أكتوبر 1947 أفقت من النوم، وتكاسلت في الفراش أستمع إلى المذيع وهو يذكر أن عدد الموتى بلغ ألفًا في مصر عقب انتشار مرض الكوليرا، فاستولى على حزن بالغ، وانفعال شديد، فقفزت من الفراش، وحملت دفترًا، وغادرت منزلنا الذي يموج بالحركة، والضجيج يوم الجمعة، وكان إلى جوارنا بيت شاهق يبنى، وقد وصل البناءون إلى سطح طابقه الثاني، وكان خاليًا لأنه يوم عطلة العمل، فجلست على سياج واطئ، وبدأت أنظم قصيدتي المعروفة الآن "الكوليرا" وكنت قد سمعت في الإذاعة أن جثث الموتى كانت تحمل في الريف المصري مكدسة في عربات تجرها الخيل، فرحت أكتب وأنا أتحسس صوت أقدام الخيل:
سكن الليل
اصغ، إلى وقع صدى الأنات
في عمق الظلمة، تحت الصمت، على الأموات
ولاحظت في سعادة بالغة أنني أعبر عن إحساسي أروع تعبير بهذه الأشطر غير المتساوية الطول، بعد أن ثبت لي عجز الشطرين عن التعبير عن مأساة الكوليرا، ووجدتني أروي ظمأ النطق في كياني، وأنا أهتف:
الموت، الموت، الموت
تشكو البشرية تشكو ما يرتكب الموت
وفي نحو ساعة واحدة انتهيت من القصيدة بشكلها الأخير، ونزلت ركضًا إلى البيت، وصحت بأختي "إحسان" "انظري لقد نظمت قصيدة عجيبة الشكل أظنها ستثير ضجة فظيعة، وما كادت إحسان تقرأ القصيدة – وهي أول من قرأها – حتى تحمست لها تحمسًا فظيعًا، وركضت بها إلى أمي فتلقتها ببرودة، وقالت لي: ما هذا الوزن الغريب؟ أن الأشطر غير متساوية، وموسيقاها ضعيفة يا بنتي، ثم قرأها أبي، وقامت الثورة الجامحة في البيت فقد استنكر أبي القصيدة، وسخر منها واستهزأ بها على مختلف الأشكال، وتنبأ لها بالفشل الكامل، ثم صاح بي ساخرًا، "وما هذا الموت الموت الموت؟".
«لكل جديد لذة غير إنني وجدت جديد الموت غير لذيذِ»، وراح إخوتي يضحكون وصحت أنا بأبي: قل ما تشاء، إني واثقة أن قصيدتي هذه ستغير خريطة الشعر العربي.
ومنذ ذلك التاريخ انطلقت في نظم الشعر الحر، وإن كنت لم أتطرف إلى درجة نبذ شعر الشطرين نبذًا تامًا، كما فعل كثير من الزملاء المندفعين الذين أحبوا الشعر الحر، واستعملوه بعد جيلنا».