فكرة لإنقاذ الصعيد
النصف الجنوبي من الكنانة عانى طويلا من الظلم المتمثل في التجاهل التام من جانب الحكومة.. حكام البلاد لا يلتفتون إليه، على الإطلاق.. أنظارهم شاخصة نحو الشمال على الدوام؛ وبالتحديد الساحل الشمالي، وما حوله.. ومؤخرا تحولت قبلتهم إلى الشمال الشرقي؛ شرم الشيخ تحديدا.
لا يكفي عقد مؤتمر أو اثنين أو حتى ثلاثين، في الأقصر وأسوان.. الصعيد ليس الأقصر وأسوان فقط.. وأيضا ليس المطارات والفنادق والكورنيش فحسب.. الصعيد ملح الأرض.. مزارع حولت الشمس لونه إلى السواد بلون الطين الذي يعشقه.. وبيوت من الطوب اللبن.. تأتي عليها السيول في بعض المواسم فتحيلها إلى أثر بعد عين.. أو تلتهما الحرائق بفعل البوص المكوم فوق الأسطح فتصبح على إثرها كومة من الرماد.. وبضع بقرات أو خراف وماعز وجاموسة، هي أهم لدى صاحبها من أولاده.. فهي رأس ماله وزاده، وكل ما يملك في الحياة الدنيا.
الصعيد أيضا بضع من قراريط ضئيلة اكتسبها مزارعوه بالوراثة، وهم –في هذا الصدد– يلهجون بالدعاء للزعيم الراحل عبدالناصر، ليل نهار، فلولاه ما عرفوا مشاعر الملكية، ولَمَا جربوا أحاسيس صاحب "الطين" أبدا.. وشكائر "الكيماوي" ومعظمها مبيدات محرمة دوليا، ومجرمة كذلك.. لكنها حلال في مصر، ومسموح بتداولها، نهارا جهارا.
الصعيد قطن.. وقصب.. وقمح.. وذرة.. وفول.. وبرسيم.. معاناة وإرهاق في الحرث والبذر والري، ومشقة في الحصاد، وحيرة في التسويق والبيع.. ومآتم في حالة إصابة المحصول بآفة أو مرض ما.. أو إذا ما بدأت "الزراعة" "لعبة الـ 3 ورقات" مع المزارعين، وتخلت عن عملية التسويق، أو خفضت سعر التوريد.
الصعايدة يتألمون، وهم يتفرجون على التليفزيون، حيث يشاهدون صعيدا غير موجود في الواقع.. صعيدا غير الصعيد.. النجوم يلبسون ثيابا نظيفة، مكوية، زاهية، ويلوون ألسنتهم بلهجة هي خليط من "الشمال" و"الشام" و"الخليج"، لكنها بعيدة – البعد كله – عما يتحدثونه، والنجمات يرتدين أزياء أقرب إلى أهل العاصمة.. ويتصرفن أقرب ما يكون إلى فتيات القاهرة، المتحررات من القيود الثقيلة، ونير التقاليد الصعبة.
فكرتي.. بعد ما أسلفته، تعتمد على تنوير وتثقيف أهلنا في الجنوب، بأيسر السبل، وأقل التكاليف.. وذلك من خلال إنشاء منطقة إعلامية حرة في منطقة تجعل اختراق محافظات الجنوب، ثقافيا، وإعلاميا، وفنيا، أمرا سهلا.. وتنقل صورة مطابقة للواقع عن أهل الصعيد إلى سكان العاصمة، وصناع القرار.. وتأتي لساكني الجنوب بكل منتوجات الثقافة والصحافة المطبوعة، في التو واللحظة التي ينالها القاهريون، والمتاخمون لعاصمة البلاد، ودون تأخير..
الفكرة تتلخص في تخصيص مساحة في صحراء محافظة قنا.. باعتبارها أطول محافظات الجنوب، وتمتلك طرقا مباشرة جاهزة مع البحر الأحمر، والوادي الجديد.. مع تحديد مساحات للمؤسسات الصحفية، والقنوات الفضائية، وهيئات وزارة الثقافة، والإعلام، والمسارح، والهيئات المسئولة عن صناعة السينما في مصر.. بنظام اقتصادي ملائم "الانتفاع المحدد المدة مثلا".. وتقام بها مطابع، ومنافذ توزيع، واستديوهات، ومسارح، ودور سينما، وإذاعات.... إلخ.
هل تعلمون أن الصحف تصل إلى الصعيد بعد الظهر يوميا.. وأحيانا لا تصل بعضها إطلاقا في حالة تأخر إرسالها إلى قطار الصحافة، نحو الثالثة فجرا؟!
أي أزمة أو حدث يقع في الصعيد يمثل نقله صعوبة بالغة.. ومعاناة أهل الجنوب – في حد ذاتها – تحتاج إلى طريقة سهلة لنقلها بسرعة ودقة وأمانة.. وفكرتي – فيما أعتقد – أنها ستحقق كل ذلك، فضلا عن الإسهام في مواجهة أزمة البطالة التي تطحن الشباب هناك، وتصيبهم بالإحباط، وفقدان الثقة.. فلنبدأ.