ما لم تشاهدونه يوم عرس القناة!
ليس مهما أن نتلق دعوة من أي جهة رسمية لحضور احتفال القناة.. المهم أن تنتصر المهنة وننتصر للمهنة، ونتذكر نصيحة الأستاذ هيكل للصحفيين حين يقول "يجب ألا ينسى الصحفي في أي لحظة أنه صحفي"!.. ومن عمل بالصحافة والتليفزيون والإذاعة والفضائيات لا يحتاج إلى دليل.. ولا يحتاج إلا إلى الانطلاق إلى هناك.. فقد كان الذهاب حتميا.. وطنيا ومهنيا!
وبعيدا عن كل ما رأيتموه خلال يومين عن اﻻحتفال، وعلى طول الطريق الدائري الأسرع لبداية طريق الإسماعيلية الصحراوي، ورغم أنه يمر على أحياء ومناطق بل قرى مختلفة، إلا أن أعلام مصر تزين البيوت والمنازل والمحال على جانبيه، لكن عند مدخل الطريق الصحراوي يستقبلنا كمين للشرطة له مهمتان.. الأولى أن يرحب بالعابرين إلى الإسماعيلية مثلي ويهديهم ورقة ترحيب وتهنئة بالمناسبة، والمهمة الثانية أن يمنع سيارات النقل الثقيل!
الطريق إلى الإسماعيلية أروع ما يكون.. أربع حارات في كل اتجاه.. الإشارات المرورية تزين الطريق.. اختفت تقاطعات العودة للخلف وحلت محلها - ووفقا للمعايير الدولية - الكباري الدائرية العلوية من تصميم رجال الجيش المصري بإبداع مدهش.. والأكثر دهشة أن الجيش لم يفته تكريم شهدائه الأبرار، فأطلق على كل كوبري منها اسم أحد الشهداء.. لا تمييز في التكريم بين الكبير والصغير، فكلهم جادوا بأرواحهم الغالية فداءً لوطن غال.. فهذا كوبري يحمل اسم الشهيد المساعد "محمد حربي"، يسبق كوبري آخر يحمل اسم الشهيد اللواء "ماجد صالح".. السرعة لا تسمح بأن نرى لوحات على مداخل الجسور تحمل صورة وقصة استشهاد كل منهم، وخصوصا أن سيارات الشرطة تخطف العيون.. لا يمر كيلو واحد حتى تجد الأكمنة على الطريق.. من سيارة واحدة إلى عشرين سيارة كما كان الحال في بوابة الرسوم.. الكل في جاهزية قصوى، ومثلهم عددا وكيفا سيارات الإسعاف.. بل حتى الكباري العلوية كانت في حراسة رجال الشرطة استعدادا لأي طارئ.. كل ذلك في ظل طقس جهنمي لا مثيل له!
شوارع الإسماعيلية البهجة عنوانها.. الأعلام المصرية فوق كل متر من كل شارع وحارة.. شاهدنا من قبل فرحة المصريين في مختلف محافظات مصر على شاشات الفضائيات، إلا أنها على الطبيعة شيء آخر.. بائعو الأعلام و"تي شيرتات" السيسي في كل مكان.. الأغاني الوطنية والتجمعات في كل مربع يصلح لأي تجمع بشري.. كل الفئات وكل الأعمار.. باختصار كل السكان في الشارع.. رجال الشرطة في كل مكان أيضا.. الكورنيش وقلب المدينة وحتى طريق مدينة "فايد" الممتد عبر طريق البلاجات الذي لا يعيبه إلا بقاء أحد المباني الأمنية المدمر بفعل عمل إرهابي قبل أكثر من عام، كما هو بغير إصلاح ولا نعرف لماذا؟.. السلوك المتحضر المهذب حال كل رجال الشرطة وكانت التعليمات الصارمة.
في المساء المشهد مختلف.. فقد ذهبت قليلا حرارة الطقس.. والمبتهجون المحتفلون يتزايدون في الشوارع.. وقت طويل أبحث فيه عن مقهى "زينة" الشهير، أشهر مقاهي الإسماعيلية.. كان قريبا من مزلقان غير مستخدم وأخيرا عثرت عليه لأكتشف أن المزلقان رفع، وأن المنطقة أعيد تخطيطها، وأن نفقا كبيرا افتتح ويعمل رغم أنني كنت في الإسماعيلية قبل عام واحد تقريبا!
ليس هناك سبب لصاحب المقهى يجعله يستأجر على نفقته "دي جي" بسماعات عملاقة، ويحتفل بالعرس على طريقته.. أجمل الأغاني الوطنية تلهب مشاعر الناس يختلط فيها أصوات الجسمي مع محمد عبد الوهاب مع ألحان السمسمية.. وفجأة تتحول المساحة في المنطقة بين المقهى ومعمل المختبر المواجه إلى كرنفال لا وصف له.. وأحدث نفسي: ما الذي يدفع هذا الرجل المسن للرقص هكذا؟.. وما الذي يدفع تلك العجوز لتخر إرهاقا بعد أن استنفزت قواها هتافا لمصر وحملا لعلمها؟.. وما الذي يدفع هذا الرجل الممتلئ أن يذهب لزبائن المقهى الآخر يرقص أمام كل مجموعة من الزبائن ويبادلونه الرقص والبهجة؟
وما الذي يدفع هذا الرجل أن يضع على رأسه قبعة تحمل أعلام مصر في مشهد وطني وكوميدي أيضا؟.. وما الذي يدفع هذه السيدة التي يبدو حالها فقيرا وقد أحاطها أطفالها الصغار يتراقصون من حولها؛ لأن تشتري لهم أعلاما أو قبعات أو شعرا بلاستيكيا مستعارا بلون علم مصر؟.. أليست هي وهم أولى بكل قرش من أموالهم القليلة أصلا؟.. ما الذي يدفع أطفالا صغارا للرقص بكل هذا الحماس والهتاف لبلدهم؟.. ومن الذي علمهم؟.. ومن الذي يتحمل مسئولية سيرهم بالشوارع هكذا ليلا؟.. وكيف انعكست ثقافة كرة القدم في الإسماعيلية على هتافات الأطفال الذين ضجت بأصواتهم المدينة الهادئة، وهم يهتفون مثلا "السيسي عمهم وحااابس دمهم"؟.. وما الذي يدفع غيرهم ليستأجروا سيارات تطوف بهم حولنا ومن خلفنا يهتفون حبا للوطن؟.. ماذا سيحصل لهؤلاء بشكل مباشر - مباشر- من مشروع القناة أو أي مشروع آخر؟
أليس هؤلاء جميعا هم محدودو الدخل ممن قالوا عنهم إنهم على وشك الانفجار؛ غضبا من ارتفاع الأسعار وجحيمها؟.. لقد انفجروا حبا لوطنهم.. تدفق الدم في عروقهم في لحظة استدعاء وطني تاريخية.. فلبوا النداء بغير تأخير وبتلقائية لا رقابة عليها إلا من رب العالمين.. إنه حب الوطن الغالي.. يستخرج حينما يريد، ووقتما يريد أجمل ما فينا.. فيخرج ويتدفق بغير حساب!!