الحوار الذاتى أولا
من أبسط بديهيات المعرفة أن من لا يعى ذاته وشروطها لن يكون بمقدوره أن يعى الآخر، وينطبق هذا بدقة على مفهوم الحوار، هذه المفردة السحرية التى تتكرر فى كل الأزمات، حيث باتت عبارات من طراز: العودة إلى مائدة الحوار أو الحوار هو الحل مفرغة من مضامينها، لأن الحوار مع أى طرف آخر يتطلب بالضرورة وقفة صادقة مع الذات، بل محاورتها لتحديد ما تريد ولمعرفة المسافة الفاصلة بين الرغبات والقدرة على تحقيقها، وأسباب فشل الحوار فى معظم الأزمات الراهنة تتكرر أيضا، وبكامل أخطائها، لأنه أشبه بخبر لا مبتدأ له أو جار بلا مجرور، فمن يتقدمون إلى الحوار غالبا ما يفعلون ذلك بثقافة المباريات الرياضية ولا يصغى بعضهم إلى بعض بقدر ما يطربون لصدى أصواتهم، وتقدم لنا الحوارات الفضائية عيّنات من هذه الثقافة، حين ينصرف الطرفان إلى خارج الشاشة ويتحول الحوار إلى مجرد مناسبة لاسترضاء سلطات سياسية أو أحزاب على طريقة: إياك أعنى واسمعى يا جارة.
كيف يمكن لمن لا يتحاور مع ذاته أولا ويحدد مطالبه وسقفها، أن يتقن الحوار مع الآخرين؟ فالعودة بخفيّ حنين بعد كل جلسات الحوار أصبحت عادة عربية بامتياز، لهذا ثمة عودة دائمة إلى الصفر أو أول السطر، وكأن كل ما يقال هو مجرد مطر فى غربال.
ومن يجرون حوارات سياسية فى الأزمات ليسوا هابطين من كواكب أخرى، إنهم نتاج هذه الثقافة وأنماط التفكير السائدة فيها، فما يحدث بين اثنين فى مقهى يتكرر بين طرفين سياسيين يمثلان دولتين أو حزبين، لأن الخلل فى هذه الثقافة الحوارية بنيوى ويتفشى فى النسيج كله.
لهذ علينا ألا نفاجأ بأن بعض الحوارات تتحول إلى مشاهد كوميدية، ومنها ما يصبح صراع ديكة، أما الأطرف من كل هذا، فهو أن يلعب المتحاور كرة القدم مع نفسه، أو يلعب كرة الطائرة بلا شبكة، والإفراط فى الحديث عن الحوار وفضائله هو كذلك تعبير عن غيابه، كما هى الحال فى الديمقراطية والشفافية وهذا ما عبّر عنه ذات يوم برنارد شو عندما قال إن من يثرثرون عن الفضيلة يفعلون ذلك لأنها تنقصهم وكذلك الشرف والحرية وكل منظومة القيم.
الحوار ليس منحة مجانية، ولا هو موروث جينى وغريزى، إنه مران وتعلم وترويض للأنانية والنرجسية وهذا يتطلب أولا الاعتراف بالآخر وبأنه موجود خارج الذات، وليس مجرد نتوء لها أو انعكاس لها، وإلى أن تترسّخ مثل هذه المفاهيم ذات الجذر التربوى سيبقى الحوار بين طرشان، ولا جدوى منه على الإطلاق لأنه إضاعة للوقت والجهد، كما أنه مجرد تأجيل للأزمات مما يتيح تفاقمها، وإن كان لنا أن نبحث خارج السياسة وشعابها عن سبب لحوار الطرشان فهو سيكولوجى فى العمق، وربيب تربويات توهم الذات بأنها محور الكون وبالتالى فهى معصومة، ومن حقها احتكار الصواب وتحريمه على سواها.
لنتحاور مع أنفسنا أولا كى نستطيع الحوار مع الآخرين، ففاقد الشىء لا يعطيه ولن يعطيه إلى الأبد.
نقلا عن الخليج الإماراتية.