رئيس التحرير
عصام كامل

«الشيخ زويد.. الهروب من الجحيم».. سماسرة الشقق بالعريش يرفعون أسعار الإيجار إلى 2500 جنيه شهريًا.. 268 أسرة غادرت منازلها هربًا من المواجهات العسكرية.. والإرهابيون يحفرون 60 مخبأً لتخزين الس

فيتو

الآن في مصر «مدينة نازحين».. نعم هنا في شمال سيناء لم تجد عشرات الأسر أمامها سوى ترك منازلها بحثًا عن نومة هادئة لأطفالها حتى ولو كانت في «عشة من الخوص والجريد» بعيدًا عن أصوات التفجيرات التي لا تتوقف وطلقات الرصاص المتطايرة.


أشهر عجاف في الخدمات والمواصلات حاصرت أبناء الشيخ زويد، والآن القرار الأصعب إما مزيد من الفزع والتهديد لصغارها وكبارها أو النجاة بالتوجه إلى العريش وبئر العبد بحثًا عن سكن جديد إلى أن تهدأ الأوضاع.

أسعار الإيجار بلا رحمة

في المدن المستضيفة مدت كثير من أسرها يد الرحمة للنازحين ففتحت أبواب منازلها أمامهم لحين ميسرة إلا أن هناك من أصابه الجشع فرفع أسعار الإيجار بلا رحمة أمام محاولات متواصلة من مسئولى المحافظة للمساعدة.

«فيتو» زارت مخيمات النازحين في الصحراء ورصدت قصصًا مأساوية عن حياتهم.

أبو محمد « 50 عامًا – أحد أبناء الشيخ زويد» تحدث لـ«فيتو» عن معاناته وأسرته المكونة من 7 أفراد بعدما تركوا منزلهم بالمنطقة كـ«نازحين» إلى مدينة العريش بعد أن ضاقت عليهم السبل واستحال العيش في منطقة قبر عمير التابعة لمدينة الشيخ زويد.

لم يكن «أبو محمد» ينوى ترك منزله ويذهب بعيدًا عن الانفجارات وإطلاق الرصاص الحى نتيجة المواجهات المستمرة بنطاق مدينتى رفح والشيخ زويد، خصوصًا أنه عاش عمره كله داخل منزله وسط أسرته إلا أن الظروف الأمنية دفعته إلى اتخاذ هذه الخطوة.

قال أبو محمد «تركت منزلي، وعملى كسائق على جرار زراعى بأحد الأراضى الزراعية المجاورة لمنزلي.. الآن أحمل في رقبتى 5 أطفال يحتاجون الرعاية والأمن»، وأضاف: «لجأت إلى مدينة العريش التي تبعد عن منزلى ما يقرب من 30 كيلومترًا لضمان العيش في أمان لأبنائي.. استأجرت منزلًا في بداية الأمر لكن لم أتحمل دفع مبلغ الإيجار فتركته وذهبت إلى أطراف مدينة العريش وبنيت عشة من الخوص والجريد في الصحراء تؤينا من حرارة الشمس دون أي مقابل».

واعتبر سلامة محمد أ«حد سكان قرية الجوز أبو رعد بجنوب مدينة رفح» أن مشكلة غياب الخدمات عن المدينة ليست وليدة اللحظة، ولم تكن السبب الرئيسى في تركهم منازلهم لكن الوضع الأمني صعب جدًا، على حد قوله.

وقال«نرى يوميًا القذائف الصاروخية العشوائية تسقط على المنازل فتقتل من تقتل وتصيب من تصيب، علاوة على أصوات الرصاص العشوائى المتطاير من كل جانب، والأطفال مش قادرين يستحملوا العذاب، لكن أمام إلحاح زوجتى وأطفالى قررت هجرة المدينة».

معاناة «سلامة» ليست فردية لكنها جماعية سجلتها شوارع قريته التي رحل عنها عدد كبير من سكانها، فمنهم من اتخذ من العريش موقعًا جديدًا للإقامة ومنهم من توجه نحو «قبلة بئر العبد» بل هناك من ترك شمال سيناء برمتها متجهًا نحو محافظات الوادى لبدء حياة جديدة.

«محمد الحمايدة - أحد النازحين من مدينة الشيخ زويد» وصف الوضع في الشيخ زويد بـ«شديد الخطورة» فكل سبل الحياة متوقفة داخل المدينة، والمدارس تهدمت وتوقفت عن العمل بسبب الاشتباكات الدائرة بين الجيش والمسلحين الذين يعتلون أسطح هذه المدارس للاختباء وإطلاق النار على القوات، مضيفًا: «حتى المياه لم تصل المدينة منذ فترة طويلة والآبار لا نستطيع إخراج المياه منها؛ لانقطاع الكهرباء المتكرر».

وروى محمد النصايرة «أحد سكان مدينة الشيخ زويد» عملية استغلال أصحاب العقارات وسيارات النقل لتلك الأزمة التي يمر بها أهالي المدينة، وبدءوا رحلة البحث عن مسكن بديل في مدينة العريش رغم الارتفاع المفاجئ في الأسعار الذي بدأ بألف جنيه وقفز إلى 2500 شهريًا حسب موقع كل شقة، وكذلك أجرة التاكسى التي ارتفعت من 5 جنيهات إلى 100 جنيه في وقت الأزمة، والأصعب أن أجرة نقلة الأثاث تجاوزت ألف جنيه، مطالبًا بتعويضات عاجلة للنازحين على غرار ما حدث مع أهالي رفح.

وفي نزل الشباب التي خصصتها محافظة شمال سيناء لبعض الأسر النازحة من الشيخ زويد يسكن «أبو زياد»، والذي قال لـ«فيتو»: «والله ما نجد مأوى لنا.. أسعار إيجار الشقق ارتفعت إلى ألف جنيه خلال الشهر وأنا على باب الله.. لجأت إلى مسئولى المحافظة فأصدر اللواء عبد الفتاح حرحور محافظ شمال سيناء قرارًا بتسكين بعض الأسر بنزل الشباب التابع للمحافظة».

«أبو زياد» حذر من إصابة أطفال المدينة بأمراض نفسية لما يشاهدونه من قصف وأصوات تفجيرات وطلقات نارية لا تتوقف، وأصبح الفزع شعار استيقاظهم من النوم والدخول في نوبة بكاء وصراخ طوال الليل من شدة أصوات القصف والرصاص العشوائي، قائلا: «أهالي الشيخ زويد النازحين يعيشون حاليًا في الصحراء داخل عشش صغيرة ومعهم أسرهم الكبيرة.. مصدر رزقنا الوحيد هو تربية الأغنام لكن لا نجد طعاما لهذه الأغنام وكميات المياه محدودة للغاية».

«الشهامة» شعار رفعته كثير من الأسر في العريش بعد أن قررت فتح منازلها وحجرات الضيافة أمام بعض الأسر النازحة من مدينتى الشيخ زويد ورفح، وقال «رضا الكاشف - أحد سكان مدينة العريش»: «لم نتردد عندما طلب منا أحد جيراننا اللجوء إلى منزلنا الخالى بمنطقة ابنى بيتك بالعريش للعيش لفترة زمنية مؤقتة لحين تمكنه وأسرته من العثور على منزل مناسب للعيش فيه».

عشرات الأسر في صفوف النازحين

مصادر مطلعة بديوان عام محافظة شمال سيناء أكدت أن المحافظة أجرت حصرًا لأعداد الأسر النازحة وكشفت عن وجود ما لا يقل عن 268 أسرة نازحة موزعة على مناطق غرب العريش، واستقرت 50 أسرة بمنطقة الميدان، و40 أسرة في السبيل، و70 بحى السمران، و40 أسرة بمنطقة المزار غرب سيناء، و48 أسرة بمنطقة المضبعة جنوب قرية الميدان ببئر العبد.

ولفتت المصادر إلى أن اللواء حرحور شدد على ضرورة توجية كافة الاحتياجات للأسر النازحة، مشيرة إلى أن المحافظة تولى هذه الفئة اهتمامًا شديدًا، وتم الاتفاق والتنسيق بين كافة المديريات بالمحافظة لتوفير كافة الاحتياجات وتوصيل المواد والسلع الغذائية والاستهلاكية من لحوم ودواجن وخضراوات وفاكهة للمواقع التي تشهد تواجد هذه الأسر عبر سيارات التوزيع وبالسعر المحدد بواقع مرتين أسبوعيًا، وصرف الحصص التموينية من أقرب بقال تموينى إلى جانب تسيير قوافل صحية للطب الوقائى في جميع التخصصات والتطعيمات لتغطية مناطق التجمعات المقيمة بها تلك الأسر.

ماذا يحدث الآن؟

ظلت الشيخ زويد مدينة أنيقة في وسط صحارى سيناء عاشت لسنوات هادئة يأتى أهلها البدويون رزقهم، فأبناؤها يصل عددهم إلى 60 ألف مواطن موزعين في أرجاء المدينة الكبيرة، ويوجد بها 15 قرية أكثرها بجنوب المدينة، ويقيم فيها عدد من القبائل البدوية أكبرها «السواركة والريشات والريملات» وبعض من قبيلة «الترابين»، وتشتهر المدينة بكثرة أراضيها الزراعية مثل الكنتلوب والخوخ واللوز والكثير من الزراعات الحمضية.

بعد ثورة «30 يونيو» تحولت المدينة إلى مدينة أشباح وازدادت الأوضاع سوءًا فيها بعد فض اعتصامى رابعة والنهضة، وأغلقت المحال التجارية أبوابها وهجرها بعض سكانها، وتحولت إلى ما يشبه «الخرابة المعزولة» عن العالم بقطع الاتصالات وبحظر تجوال يعتبر طوال اليوم.

على مدى الشهور الماضية، ظل دخول «الشيخ زويد» أمرًا ليس سهلًا بل يتطلب مساعدة من أحد أهالي القرى من الداخل لإغلاق الطرق الرئيسية وانتشار كمائن الجيش في مختلف مناطق المدينة للتضييق على المسلحين التحرك بسهولة، فتكون الطرق الجانبية وغير الممهدة بديلًا بل والطريق الوحيد للوصول إليها.

الآن تحولت مدينة الشيخ زويد الهادئة إلى مسرح للعمليات الإرهابية، واعتاد أطفالها على سماع أصوات الرصاص المتطاير طوال الوقت ومن يصب منهم لا يوجد له علاج مناسب في مستشفى الشيخ زويد الوحيدة بالمدينة، إذ تفتقر إلى جميع الإمكانيات والكوادر الطبية.

حاصر العنف تلك المدينة الهادئة عندما بدأ انتشار الفكر الجهادى التكفيري، ليظهر «الدكتور خالد مساعدى - أحد أبناء قبيلة السواركة» المتخصص في طب الأسنان معلنًا تشكيل أول تنظيم جهادى يحارب الدولة وسارع في تأسيس تنظيم سُمى بـ«التوحيد والجهاد»، الذي نسب إليه العديد من العمليات الإرهابية منها تفجيرات 2005 بجنوب سيناء لكن الأجهزة الأمنية سرعان ما قضت على هذا التنظيم بعد تفجيرات طابا.

قبل «25 يناير» كانت المدينة شبه هادئة وبعد اندلاع الثورة، وخلال فترة الانفلات الأمني وهروب معظم القيادات التكفيرية من السجون صارت المدينة معقلا للتكفيرين وأصحاب الفكر الجهادى المتطرف كما تحولت إلى مسرح للعمليات الإرهابية ونقطة انطلاق وتجمع للجماعات المسلحة.

قرى تحت الحصار

واستخدمت الجماعات المسلحة مدينة الشيخ زويد لطبيعة تضاريسها وكثرة المناطق الصحرواية الوعرة، كما انتشرت في قراها، وخصوصًا قرى «المهدية، والمقاطعة، والفيتات، والتومة، والظهير، والعجرة»، وجميعها معقل أفراد تنظيم أنصار بيت المقدس الإرهابي.

عناصر التنظيم الإرهابى حفروا الخنادق والملاجىء تحت الأرض وساعدتهم تضاريس المدينة الوعرة على الاختباء بعد كل عملية، كما استخدموا مزارع الزيتون ذات المساحات الكبيرة والبعيدة عن المنطقة السكنية كمأوى لهم.

وفى يوليو 2014، نظمت جماعة أنصار بيت المقدس عرضًا عسكريًا مسلحًا في هذه القرى، ووزعت منشورات على الأهالي تحثهم على الانضمام إلى الجماعة لإعلان منطقة الشيخ زويد ورفح ولاية لسيناء تمهيدًا لمبايعة أبو بكر البغدادى أمير تنظيم داعش، وبدأت الجماعة بالظهور على الملأ واستعراض القوة عن طريق تنظيم مسيرات بسيارات الدفع الرباعى والمرفوع عليها علم «داعش» حاملين أسلحة خفيفة وثقيلة متطورة.

«اللفيتات» إحدى القرى الواقعة في جنوب الشيخ زويد تحولت في وقت قصير إلى ما يشبه عاصمة للإرهاب في سيناء بل إن المسلحين أعلنوا اختيارهم لها كعاصمة لـ«ولاية سيناء» المدعومة من تنظيم داعش بالعتاد والسلاح والمال والإرهابيين أيضًا.

وتشير المعلومات إلى أنه بعد استهداف الكتيبة 101 ومديرية أمن شمال سيناء، كشفت المصادر عن أن المسلحين انحصر تواجدهم في 3 قرى الظهير والعجراء وهى تعتبر نقطة تمركز رئيسية لهم وقرية اللفيتات التي تعد أخطر وأبرز أماكن تجمعات المسلحين، واستعانوا بحافرى الأنفاق «حفروا 60 مخبأ تحت الأرض لتخزين السلاح».

المسلحون استغلوا وعورة واتساع أودية وتضاريس قرية اللفيتات وأنشأوا فيها شبكة مخابئ يلجأ إليها الإرهابيون أحيانًا لتخفيف الحصار وحولوها إلى ما يشبه مدينة كاملة تحت الأرض فيها كل أنواع السلاح المهرب من غزة والقادم من ليبيا إبان حكم الإخوان.

صباح الأربعاء « يوليو»، بدأ الهجوم الإرهابى الواسع، فيما فوجئ أهالي منطقة الشيخ زويد بهجوم الجماعات التكفيرية على عدة أكمنة عسكرية جنوب المدينة عن طريق إطلاق قذائف هاون أعقبها مباشرة هجوم بالأسلحة الثقيلة إلا أن القوات صمدت في وجه الهجوم وتبادلت إطلاق النار بحزم شديد مع العناصر الإرهابية وأسقطت عددًا من القتلى في صفوف التكفيريين، فيما منحت مروحيات «الأباتشي» قوات الأمن الأفضلية في المعركة.

كما اضطرت الأجهزة الأمنية إلى إغلاق الطريق الدولى «العريش- رفح» لمحاصرة عناصر بيت المقدس وقطع الطريق لتحركاتهم بسهولة وذلك مع تحليق مكثف لطائرات الأباتشي، ثم سريعًا ما هاجمت العناصر التكفيرية قسم شرطة الشيخ زويد، وأطلقوا رصاصًا كثيفًا تجاه مبنى القسم إلا أن قوات الأمن ردت بقوة عليهم قبل أن ينشر المسلحون براميل البارود حول القسم لتفخيخه.

بالتزامن مع ذلك، هاجمت العناصر التكفيرية كمين «أبو رفاعي» العسكري المجاور لقسم شرطة الشيخ زويد واستهدفته من خلال تفجير سيارة مفخخة، ومع فترة الظهيرة قامت عناصر مسلحة تابعة لـ«بيت المقدس» بزرع عبوات ناسفة في عدة طرق رئيسية لعرقلة وصول التعزيزات الأمنية إلى أماكن الاشتباكات، كما حاصرت معسكر الزهور عن طريق زرع عبوات ناسفة بمحيط المعسكر لعرقلة خروج أي تعزيزات أمنية لمساعدة القوات.

وشهدت شوارع الشيخ زويد انتشارًا للتكفيريين الذين أجبروا بعض المواطنين على ترك منازلهم واعتلوا الأسطح لاستهداف القوات، فيما واصلت الطائرات الحربية القصف في محاولة للسيطرة على الموقف.

تحولت مدينة الشيخ زويد عقب الهجوم المسلح المتزامن على 14 ارتكازا عسكريا وقسم المدينة إلى مدينة أشباح، وخلت الشوارع من المارة وأغلقت المحال التجارية والأسواق، وأصوات الانفجارات والرصاص تسمع بين الحين والآخر.

وبعد انتهاء الاشتباكات، خرج أهالي مدينة الشيخ زويد ليتفقدوا شوارع المدينة بعد يوم طويل من الاشتباكات العنيفة والدامية لتظهر آثار الدمار والجثث التابعة للتكفيريين متفحمة ومفصولة نصفين للتكفيريين في شوارع المدينة، وجمعت القوات المسلحة 36 جثة وتم التحفظ عليها لمعرفة هويتهم.
الجريدة الرسمية