..لأنهم من الوراق
لأنهم من الوراق فقد كان ما كان، ولأنهم من الوراق فإن محطة فضائية واحدة لم تر أن هناك ضرورة لإعلان الحداد على أرواح ٤٣ نفسا بشرية أزهقت، وأعدمت، وقتلت، بقرار حكومى في نزهة عيدية.. ولأنهم بسطاء، فقراء، شرفاء، فإن التليفزيون الرسمى تعامل مع فجيعة فقدهم باعتباره خبرا ثانويا، يأتى بعد أخبار الوزراء والسفراء والأثرياء.. ولأنهم من ملح الأرض ليس بينهم وزير ولا خفير، فإن رئيس الوزراء نفسه لم يشأ أن يقطع فسحته بإيطاليا ليعود حزينا، كسيرا، شريدا، كئيبا!!
ولأنهم من ذلك الصنف البشرى الذي عانق الفقر دون رغبة، وعايش العوز دون رغبة، وتواصل مع الحاجة دون ملل، فإن وزيرا واحدا من حكومة محلب لم يشأ أن يقطع وصلة صيفه المارينية في الساحل الشمالى، ليعود سابحا في كارثة القهر والموت والخراب.. ولأنهم ينتمون إلى نفس العينة البشرية التي ماتت قديما بعشرات الآلاف، لأن العالم قرر فجأة حفر قناة السويس، وينتمون إلى نفس النوع البشرى المشنوق في دنشواى، ويتردد أن لهم نفس جينات المقتولين في أراضى الباشوات والبكوات، فإن وزير النقل لم يغير رابطة عنقه إلى اللون الأسود تعبيرا عن حزن أو مشاركة في عزاء.
ولأن الذين غرقوا أو أُغرقوا.. الذين ماتوا أو قُتلوا.. الذين رَحلوا أو رُحّلوا.. هم من الإنتاج البشرى الزائد عن الحد، فإن الدولة المصرية كلها انشغلت عن عزائهم بالتجهيز لحفل أسطورى سيحضره الكبار، وعلية القوم، وعلية الأقوام الوافدة على ضفاف قناة السويس الجديدة.. انشغل الناس بما سيحرزه الأهلي من أهداف في مرمى النجم الساحلى، وانشغلت فضائياتنا بما أنتجته ماكينة التفاهة والسطحية والابتذال.
ولأن المقتولين من الوراق، والوراق من مناطق التهميش والإقصاء والعشوائية، فإن وزير النقل لم ينس تصفيف شعره، ووضع الصبغة ذات السواد الأحلك، وهو يقف أمام الكاميرات، ليعلن أنه حزين، وأنه لن يصمت، وأنه أقال موظفا عموميا كبيرا، بسبب إهماله.. ولأن أهالي الضحايا من ذلك النوع الذي يمكن إقناعه بأن الحذر لا يحول دون قدر، وأنه مكتوب على هؤلاء أن يموتوا دفنا في النيل، وغرقا، وخنقا، فإن أحدا من حكومة بلدوزر التنويم، وقطار التهبيل، وجرار الخيبة، لم نره على ضفاف النيل، يعاتبه وينهره، ويقهره، لأنه تجرأ على ابتلاع ٤٣ مواطنا مصريا في ساعة واحدة.
ولأن الغريق شهيد، فإن حكومة هذا البلد قد تحتفل بزفاف ٤٣ نفسا، بعد أن منّ الله عليهم بنعمة الشهادة.. قد يتمنى رئيس الوزراء ميتة تشبه ميتتهم، وهو الذي كان غائبا عن الوطن في مهمة مقدسة، لتعاطى البيتزا الإيطالية تطوعا من أجل مصر، وقد يحسدهم وزير النقل على ما وصلوا إليه فيراهم من المحظوظين، وقد لا يتوقف وزير المالية كثيرا أمام هذه الحظوة التي نالوها فيفرض عليهم ضريبة دخول الجنة، بعد حصوله على فتوى شرعية من دار الإفتاء المصرية بأن الراحلين شهداء يجب على ذويهم دفع الضريبة!!
ولأنهم وذويهم وجيرانهم ومعارفهم من ذلك النوع الذي تستطيع أن تحشدهم حشدا بكلمات بسيطة حول الوطن، وتحدياته.. ولأنهم من نفس فصيلة المصريين الذين وقفوا في طوابير يدلون بأصواتهم لانتخاب رئيس ينقذ البلاد والعباد، فإن رئاسة الجمهورية لم تصدر بيانا حزينا، ولم تنكس العلم تعبيرا عن الفجيعة، ولم يتورط الرئيس الذي يحب المصريين كما أحبوه بدمعة على سقوط ٤٣ مصريا كل عيدهم وترفيههم وأملهم كان فسحة نيلية لم يتصوروها موعدا مع الموت.
ولأن الميتين من الوراق، فإنه لم يحزن عليهم غير “الوراقين” أي أهل الوراق، أما الصحف فقد حافظت على ألوانها الزاهية، حرصا على جذب القراء، ولأن الضحايا عشرون طفلا، والباقى من الكبار، فإن مانشيت «تنسيق مصرى إيطالي» كان أهم من انتشال ٤٣ من الغلابة.. كانت أخبار رئيس الوزراء، والوزراء، وسفن العبور التجريبى في قناة السويس، أهم بكثير من هؤلاء المواطنين الذين كانوا ضمن فرق الصارخين بالعيش والحرية والكرامة الإنسانية!!