رئيس التحرير
عصام كامل

خالد محيي الدين يتذكر الساعات الأخيرة تحت حكم الملكية: «عبد الناصر» أبلغ الإخوان بميعاد الثورة.. و«الجماعة» رفضت المشاركة.. الرئيس أراد دعم الشيوعيين لـ23 يوليو.. و«حمروش»

خالد محيي الدين
خالد محيي الدين

>> "ناصر" غضب من تقديم "زكريا محيى الدين" لـ"خطة الثورة".. وقال لـ"البغدادى": أنا اللي رسمتها
>> الحرس الملكى المرافق لـ"فاروق" أربك حساباتنا.. وكنا نخشى تكرار سيناريو "الثورة العرابية"



في الساعة الثانية بعد ظهر 22 يوليو عقدت "لجنة القيادة" اجتماعها الأخير، في بيتى التقينا: جمال عبد الناصر، حسن إبراهيم، عبد الحكيم عامر، كمال الدين حسين، عبد اللطيف البغدادى وخالد محيي الدين.
وتغيب جمال سالم، صلاح سالم، وأنور السادات، وحضر معنا زكريا محيى الدين وحسين الشافعي وعبد المنعم أمين وإبراهيم الطحاوي، وكان حضورهم مبررا ومنطقيا، وإن كان جمال عبد الناصر قد دعاهم بمبادرة منه، فزكريا شارك في إعداد خطة التحرك، ومن الطبيعي أن يحضر ليشرحها لنا، والطحاوى كان سيقود تحرك سلاح خدمة الجيش، والشافعى سيقود تحرك الفرسان، صحيح أننى كنت مسئولا عن مجموعة الفرسان، لكن الشافعى كانت رتبته أعلى، فقد كان "بكباشى" وعبد المنعم سيقود تحرك المدفعية.
عندما تحدثنا عن خطة التحرك التفت بغدادي إلى زكريا محيى الدين وقال له: اقرأ الخطة، وعرض زكريا محيى الدين الخطة، وكانت الخطة بسيطة، ويمكن القول إنها اكتسبت عناصر نجاحها من بساطتها، وكانت تنقسم إلى مراحل ثلاثة:

المرحلة الأولى:
السيطرة على القوات المسلحة، وتحريك بعض القوات إلى مبنى القيادة في كوبرى القبة، وأن يتم اقتحامه والاستيلاء عليه، على أن يتم في نفس الوقت اعتقال بعض كبار ضباط الجيش والطيران وقادة الأسلحة المختلفة حتى نضمن عدم تحريك أية قوات عسكرية للتصدى لنا.

وحددت الخطة في مرحلتها الأولى مهام الأسلحة المختلفة، فالفرسان تحملوا مسئولية إغلاق المنطقة عند شارع الخليفة المأمون بجوار محطة البنزين، وإغلاق المنطقة عند المستشفى العسكري وعند باب ستة بالعباسية وباب العباسية.
والمدفعية كانت مهمتها عزل منطقتى ألماظة والهايكستب والطرق المؤدية لمبنى القيادة بكوبرى القبة، والطرق المؤدية لوحدات الجيش المختلفة.

وتقرر أن يعاون المدفعية في هذه المهمة وحدات من سلاح الفرسان بدبابات وعربات مصفحة، ونحدد المسئولين عن تحريك القوات في مرحلتها الأولى كما يلى:
الفرسان: حسين الشافعى – خالد محيى الدين – ثروت عكاشة
المدفعية: كمال الدين حسين – عبد المنعم أمين
الطيران: حسن إبراهيم – عبد اللطيف البغدادي

وكانت مهمة الطيران تالية لتحركنا في المرحلة الأولى، وكلفت مجموعة من المدرعات بالسيطرة على مطارات ألماظة – مصر الجديدة – غرب القاهرة، وتحددت مهمة الطيران بعد ذلك في طلعات استكشاف للتأكد من عدم تحرك قوات بريطانية من قاعدة القناة، وطلعات استكشاف فوق القاهرة والإسكندرية، ومنع الملك فاروق من الهرب سواء عن طريق الجو أو البحر.

المرحلة الثانية:
كانت تتمثل في إنزال قوات إلى الشارع للسيطرة على عدد من المواقع المدنية: الإذاعة – التليفونات – قصر عابدين.. إلخ.

المرحلة الثالثة:
فهى التحرك لعزل الملك، وكانت الخطة منطقية، فأنت لا تنزل الشارع إلا بعد التأكد من السيطرة الكاملة على القوات المسلحة، ولا تقوم بمواجهة فعلية مع رأس النظام، إلا إذا تأكدت من تجاوب الجماهير معك عبر نزولك إلى الشارع.
تحدث حسين الشافعى في الاجتماع، وأعلن أن سلاح الفرسان جاهز، وأن لدينا 32 ضابطا جاهزين لتحريك قواتهم، وأننا نسيطر على 48 دبابة و48 سيارة مدرعة، وعلى الكتيبة الميكانيكية والخيالة، وتحدثت أنا لأقرر أن قوات الفرسان كفيلة بإنجاح الحركة، دونما الحاجة لانتظار وحدات المشاة، أو انتظار وصول بقية كتيبة يوسف صديق.

وتحدث عبد الناصر عن المدفعية والمشاة، وقال إنه مسئول عن تدبير وحدات منها، وعندما انتهى الاجتماع كانت الساعة الثالثة والنصف بعد الظهر، وتقرر ألا نتصل مع بعضنا تليفونيا، وأن تعد كل مجموعة نفسها للتحرك، واتفقنا أن تكون كلمة السر "نصر".

وانصرف الزملاء الأربعة: زكريا والطحاوى وعبد المنعم أمين وحسين الشافعى، وتركونا لتواصل "لجنة القيادة" آخر اجتماع لها.
وأول ما فعله جمال عبد الناصر أنه عاتب بغدادى بشدة؛ لأنه طلب من زكريا محيى الدين أن يقرأ خطة التحرك، وقال جمال: لقد وضعت الخطة وساعدني زكريا في ذلك، فلماذا يقرؤها هو.

أتذكر هذه الواقعة البسيطة لأوضح أن جمال كان حساسا جدا حتى في الأوقات الصعبة، إزاء مكانته كمسئول عن الحركة، وحتى في واقعة كهذه كان بإمكانها إذا فشلت الخطة أن تضيف مسئولية خطيرة واتهاما أكبر إلى من "قرأ الخطة"، ومع ذلك كان جمال حريصا على ألا يترك أية فرصة للشك لدى أي من الضباط المشاركين في الحركة حول زعامته ودوره.

اعتذر بغدادى وانتهى الأمر.. والتفت جمال ليسألنى أين سأكون في المساء وقبل ساعة الصفر، قلت: سأذهب أنا وحسين الشافعى إلى بيت ثروت، قال: قد أمر عليكم، وأضاف: ثروت عاطفى خليه يخلي باله.

ربما كان جمال يلمح إلى تكرار ثروت لمخاوفه من تدخل الإنجليز، لكن الحقيقة أن ثروت كان رجلا شجاعا، وكانت مخاوفه مبنية على حقائق واقعية، ولكن عندما قررنا التحرك نسى كل مخاوفه، وكان حاسما، وتصرف بشجاعة تستحق الإعجاب، وعندما أتى اللواء حشمت إلى "القشلاق" قبل تحركنا أصبح كل شيء مهدد لولا أن ثروت اندفع نحوه حاملا رشاشا وألقى القبض عليه.

إنها ليست مسألة سهلة أن يقوم ضابط برتبة صاغ داخل القشلاق بالقبض على لواء، لكن ثروت فعلها، وبعدها اكتشف أن مدفعه الرشاش كان خاليا من الطلقات.
كان الحماس يملؤنا جميعا إلى درجة أن مشاعر الحزن قد انتابت الضباط عندما أبلغتهم في اليوم السابق (21 يوليو) بتأجيل التحرك 24 ساعة، بل إن بعض الضباط قد هدد بأنه سوف يتحرك منفصلا إذا لم نتحرك نحن، وهكذا لم يعد هناك مجالا للتردد.
وأعود بذاكرتى إلى اللحظات الصعبة، وأسأل نفسى: هل كنت خائفا؟

وتأتى الإجابة سريعة وبلا تردد: ولا قطرة واحدة من الخوف، ولو للحظة واحدة، الحماس لفنا جميعا، ونسينا مخاوفنا من احتمالات تدخل الإنجليز، وبدأنا في استعداد متعجل لإنجاز كل شيء.
وكذلك حسين الشافعى وثروت عكاشة، كان كل منهما ثابتا دون أي اهتزاز، وتحركا ببساطة وكأن الأمر عادى، وأذكر لحسين الشافعى، وكان أعلى رتبة منا جميعا في الفرسان، أنه كان أحد أهم عوامل نجاحنا، باحترام الضباط له ومقدرته القيادية الفائقة، وأذكر أنه كان راسخ اليقين والوجدان، هادئا تماما، قادرا على أن يصدر القرار الحازم في هدوء وثبات.

وفى الساعات الأخيرة من عملية الاستعداد الختامى ذهبت لحسين الشافعى لأبلغه بأن كتيبتى ليس بها ذخيرة كافية، فقد كانت تحت الإنشاء، ولم يكن مع كل عسكري سوى خمسين طلقة، ووعدنى حسين الشافعى بأن تصلنى ذخيرة كافية قبل تحرك قواتى، وقد أنجز وعده.

وفى هذه الأثناء كان جمال عبد الناصر منشغلا بعدد من القضايا، فقد اتصل بالإخوان ليبلغهم بالحركة وليطلب مساعدتهم في حالة تحرك الإنجليز ضدنا، وقبل التحرك أبلغنى "عبد الناصر" أنه أبلغ الإخوان باستعدادنا للتحرك، فسألته: هل ردهم إيجابى؟ فهز رأسه بالموافقة، ولكنه أضاف: إنهم متعِبون جدا، وعلينا أن نعيد الحسابات بالنسبة لهم، ففهمت من كلامه أنهم واجهوه بمطالب كثيرة، ولكن الظروف الحرجة أملت على عبد الناصر عدم مجابهتهم، كما أرسل شقيقيه عز العرب وشوقى لمقابلة أحمد حمروش، وكان أحد المسئولين عن قسم الضباط في منظمة "حدتو" ليطلبا منه السفر إلى القاهرة لمقابلة جمال.

حضر "حمروش" ليقابل جمال عصر يوم 22 يوليو، وأبلغه جمال بأن "الضباط الأحرار" سيتحركون الليلة، وطلب منه الاتصال "بالضباط الأحرار" في الإسكندرية بهدف تأمين المنطقة هناك، وكنا نستشعر خطرا من وجود الملك هناك ومعه قوات من الحرس الملكى، وخشينا أن يجمع حوله قوات أخرى ليستقوى بها كما فعل الخديو توفيق إبان الثورة العرابية.

ولا بد أن نتساءل: لماذا اختار عبد الناصر حمروش بالذات؟ ولعل الإجابة الأكثر منطقية هي أن عبد الناصر قد أراد أن يبلغ "حدتو" بموعد الحركة، كما أبلغ الإخوان، ليضمن إمكانية مساندتها له، وبالفعل أسرع "حمروش" إلى أحمد فؤاد، وأسرع الاثنان لمقابلتى، ثم توجه حمروش ليبلغ النبأ إلى الرفيق بدر سكرتير عام "حدتو"، وهكذا أتم عبد الناصر تحصين الحركة سياسيا.

المصدر: خالد محيى الدين – والآن أتكلم
الجريدة الرسمية