رئيس التحرير
عصام كامل

"إيروس".. قصة لمحمد علام

محمد علام
محمد علام


"إيه اللى انتى عملتى ده يا أميرة؟"
سيقولها الأسمر الذى أخرجها للتو قبل أن يعيدها مرة أخرى إلى الكيس.. وسط ترصد زبائن القهوة لهما، بكل الجدية والصرامة سينفض الجملة فى وجهها وهو يتفصد عرقًا ويشعر باهتزاز المكان من حوله، وكأن زلزالًا ضرب بقلبه ضربة جابت بكل ما حولها.


"أميرة أميرة أميييررررررررة.."
لحظة دخول أخيه إلى غرفته ليسأله إن قال شيئًا، فنفى وتحت الغطاء اختفى..
"أنا خارج.. سلام".  

فى الحمام، الأسمر بجانب المرحاض اتكأ ومدد القدمين البدينتين وبكى..
"بتحب فيا إيه يا محمد؟".
 وأشارت بسبابتها إلى.. فقال: "بلى".  
بخار الماء غطى المكان وداعب جلده السميك، على صهد المرآة كتب" لا شىء يهم"، ثم مسحها وأخذت ابتسامته الباهتة تفرِّج الشفتين الغليظتين عن أسنان مصفرة فى تناسق زجاجات الفودكا.. وبأصابعه يصفف الشعر الأسود يغطى أذنيه ويلتف بشىء من الالتفاف حول رقبته.
"بزمتك بقى عبد الحليم كان أمور زيى كده؟".  

أخذت يداه تنتشران فى كل جيوبه، لا شىء سوى علكة بالعسل وولاعة قديمة، العادة التى استوطنته كلما تأهب للخروج.

"الولاعة دى جاتلى هدية من واحدة صديقتى".  
بضع أوراق التقويم التى اعتاد قطفها وحشرها فى جيبه، ارتدى الجاكت الجلد السنجابى اللون.
 
"إنتى عبيطة يا ماما.. الجاكت ده من إلنجهام".  
كتاب متوسط الحجم فى الجيب الداخلى للجاكت.

"جالى حتة طرد امبارح، تحفة، آخر ديوان لإيمان مرسال بإهداء شخصى منها".  
تتحسس يده القطع الطولى فوق جيب الجاكت فيحاول أن يضم الجانبين لبعضهما ولكن لا أمل.. تتحصل أصابعه على ورقة تقويم مطوية طيات كثيرة، فى بطء فردها:

35 جنيه لـ عم خالد ديوان إيمان مرسال
35 جنيه لـ حسنى ولاعة + كريم شعر
50 جنيه لـ طنط هناء قسط جاكت

ألقى نظرة بعدم اكتراث وأعاد الورقة إلى جيبه كما كانت.

الغرفة لها جداران يحويان السريرين والمكتب، الثالث دولاب ضخم يضم ملابسه وكتبه والأقلام والفرشات واللوحات التى تخص أخيه، والرابع هو شرفة كبيرة تطل على بيوت الشارع الضيق وحانوت أم بطرس، الشرفة التى طالما اختلى فيها بفنجان الشاى والسيجارة الكيلوباترا، والتى منها يسترق النظرات لـ (مريم) الطفلة التى ينعت ثمارها باكرًا، وتقطرت أنوثتها على ثيابها بشكل مفاجئ، لأمها الحق فى أن تخبئها تحت ذراعيها وتسير خلفها كعسكرى المراقبة، لتردع كل العيون والأفواه المفتوحة لالتهامها، كان يشاهد دروس العلاقة الحميمية على يد الأستاذة (كيت ونسلت) عندما ركضت ـ مريم ـ بسرعة تغلق الشباك وهى عارية تمامًا خارجة من الحمام لتوها، وعندما انكفأت على وجهها عند مدخل الباب لأول مرة تلبس فيها الكعب العالى فانحسر فستانها عن ساقيها الملفوفتين والأرداف القادمة فى الطريق .

"سمارى وسمارك واحد، وقلبى وعقلك اتنين، انت يا بت هتدخلى موسوعة جينيس لأجمل مؤخرة".  

فى درج المكتب ترقد ثلاث سجائر (إل إم) حصل عليها مصادفة من أحد الشباب الذين يلتصقون به فى المقاهى ليستمعوا شعره ويتعلموا منه .
ـ" عيب كل اللى بتعمله ده يا جمال"
ـ" عيب إيه بس يا أستاذ محمد؟ ده انت خيرك علينا برضه"
فى سره :
ـ" ربنا يسامحك يا جمال.. يعنى أتصرف إزاى أنا دلوقت؟!".  
يسير فى الشارع مواربًا فى قسماته ـ قدر ما يستطيع ـ الهموم التى هبطت عليه قضاء، عيناه تهرعان إلى رصيف كل حانوت أو صندوق قمامة لعله يجد ولكن لا شىء يفيد .
وسط الطريق تباطأ قليلًا.. حتى لمحها أخيرًا، منتفخة الأوداج، شامخة القوام، غلافها يعكس ضوء القمر فتنعكس فى عينيه لؤلؤة ثمينة، اتجه نحوها حذرًا من الصبى الذى شرع بجانبها فى ربط حذائه، كان بطيئًا لدرجة أثارت سخط أصدقائه المتحلقين حول الكرة ينتظرونه، وأخيرًا سيضع ثروته فى علبة فخمة تليق بها .
ـ" خد اللبانة دى يا عسل"
يحاوطه الولد بنظرة شملته من أعلى لأسفل ثم ابتسم فى خبث وهو يقترب منه ليخطف العلكة ويجرى بعيدًا ..
"يا ابن الــ.."
وتهشمت تحت قدميه ..
"أخدت اللبانة منين دى؟".  
ـ" من العجل الأسود اللى هناك"
مشيرًا إليه .. فتتعالى ضحكات الصبيان ويشرعون فى اللعب، فى سره يقول:" لا شىء يهم"، يضع يديه فى جيب الجاكت ويسير متبخترًا واضعًا إحدى السجائر خلف أذنه اليمنى والأخرى خلف اليسرى والثالثة علقها باحترافية ما بين شفتيه وهو يترنم بأبيات للحداد :
نورتى بيت الشعر يا أمورة
قالتلى ده انت اللى ولد أمور
يا طفل شايب فى قماط دمور
خد المراية
بص شوف الوسامة
ــــــــــ

ـ" إيه اللى انتى عملتى ده يا أميرة؟".  
مع صرخته لها من قلب المقهى، كان الناس يروحون ويجيئون عليه باستغراب..
ـ" وأنا اللى كنت فاكرك مثقفة ومتحضرة زينا؟!".  
ـ" وأنا اللى كنت فاكراك متدين وغيور على دينك؟!!".  
هنا قهقه بصوت عالٍ وضرب المنضدة بيده بقوة جذبت أنظار كل من فى المقهى ..
"أنا مش متدين يا أميرة .. أنا ملحد .. ومن زماااااااااااااااااان قوى".  
ـ" يا خسارة".  
لفظتها فى مرارة ورحلت تاركة حجابها وقفازاتها ومعطفها وقميصها والبنطلون الجينز، وورقة بيضاء كتب لها ذات مرة "لا شىء ينفع". . وكل شىء تركته ورحلت.. لملم الأشياء داخل الكيس وأخذ يردد "لا شىء ينفع، لا شىء ينفع"، وعلق السيجارة الـ(إل إم) بين شفتيه وسار فى خيلاء متجاهلًا كل العيون التى تتعلق به.
ـ" ده اتجنن وبقى بيكلم نفسه".   
ـ"ده بقاله 3 سنين على كده".   
لا شىء يهم، لا شىء ينفع، لا شىء يفيد.

الجريدة الرسمية