رئيس التحرير
عصام كامل

الحياد المُتعذر


ظهر مصطلح الحياد الإيجابى، خلال الحرب الباردة وبالتحديد تعبيراً عن الموقف السياسى لدول عدم الانحياز، وكان هذا المصطلح يفترض بالضرورة وجود حياد سلبى رغم أنه ما من حياد كهذا فى حياتنا الإنسانية، سواء ما يتعلق بالأفراد وتكويناتهم النفسية والثقافية أو الجماعات، ولم يظهر هذا المصطلح منذ فترة طويلة إلا فى لبنان خلال الأزمة السورية، ولا ندرى ما إذا كان مرادفاً لما سمى النّأى بالنفس عن تلك الأزمة.


أما المثير بالفعل فهو تقديم البرامج الحوارية فى الفضائيات لشخصيات عامة أو خبراء استراتيجيين على أنهم محايدون، لكن سرعان ما نكتشف بعد أقل من دقيقة أنهم ليسوا كذلك، وهذه ليست إدانة لمن يوصفون بالحياد بقدر ما هو اعتراض منهجى على من يقدمونهم بهذه الصفة، إذ يصعب علينا أن نتصور شخصيات أو خبراء كهؤلاء وكأنهم مائيون، أى مثل الماء الذى لا لون ولا طعم له ولا رائحة، لكن للكلام خصوصاً إذا كان فى السياسة رائحة تتسرب من المفردات، وأحياناً من السياق العام، كارتفاع نبرة الصوت أو انخفاضها، وهناك قضايا لا مجال فيها لأى حياد، منها الحرية وحقوق البشر فى تقرير مصائرهم، فالحياد إزاء مثل هذه الموضوعات معناه التواطؤ مع كل ما يُناقضها تماماً، كما هو الصمت عندما يكون هناك ما يتطلب الكلام ويفرض الشهادة .

وانتقلت عدوى هذا الحياد من السياسة إلى الثقافة، كأنْ يقال إن أعضاء لجنة ما من اللجان المنوط بها منح جوائز محايدة، رغم أن لكل واحد من هؤلاء مزاجه الثقافى وميوله، والأساليب التى تجتذبه حتى وهو لا يدرك ذلك، فالأسلوب كما يقول "هوفمان" هو الإنسان، وأحياناً نستطيع الحكم على مكونات هذا الإنسان المعرفية والنفسية من أدائه، وهناك تجربة طريفة فى هذا المجال فحين كتب المؤرخ "جيبون" عن سقوط الإمبراطورية الرومانية وجد من معاصريه من يقول له إن أسلوب معالجته لسقوط الرومان يفتضح سقوط الحضارة التى ينتمى إليها، فأى حياد ذلك الذى يجعل الكلام، وحتى الزفير الذى يتخلله مصطبغاً بهذا اللون السياسى أو ذاك؟

ولكى نقبل مثل هذا الزعم علينا أولاً أن نقبل بأن هناك موضوعية كاملة غير مشوبة بما هو ذاتى، وفى هذه الآونة الحرجة من التاريخ أصبح ادعاء الحياد تهرّباً من أعباء الانحياز إلى الدم والعدالة والحق.

ويلوذ بهذه الذريعة من يريدون إمساك العصا من الوسط، رغم أنها لابد أن تنزلق من القبضة المعروقة يميناً أو يساراً .

فالمفترق الأخلاقى لا السياسى فقط الآن فى عالمنا ليس فى المفاضلة بين الشاى والقهوة، أو ركوب الطائرة أو الباخرة، إنه فى التواطؤ ضد ما يلحق بنا بشراً من انتهاك وتنكيل، وبين الانحياز للضحايا خصوصاً إذا كانت محرومة من حق الكلام أو خرساء لأسباب نعرفها.

لقد توارت مصطلحات الحياد على اختلاف السلبية والإيجابية فى منسوبها وراء الحرب الباردة، ولم يبق من ذلك الموروث غير الفولكلور السياسى، وأحياناً النوستالجيا التى يعيشها من شهدوا تلك الأيام.

ومن المُحزن فعلاً أن يتورط التاريخ بهذه الثنائية، بحيث ينشطر العالم إلى مُتخَم وجائع، ومالك ومعدم، وحُر ومُقيّد، لهذا حبّذا لو تقلع البرامج الحوارية عن هذه العادة، وتكف عن استخدام كلمة الحياد، لأنها هى ذاتها طرف وليست محايدة.
نقلاً عن الخليج الإماراتية
الجريدة الرسمية