دموع بقاعة المحكمة 3
صرخت سلمى صراخ من لدغته أفعى، ثم تمالكت أعصابها من جديد وتابعت حديثها: وقصتى سيدى القاضى ما مصيرها؟ وما حكيته لك أذهب مع الريح ؟ .. وما أحمله بداخلى ليس إلا أوهام وتفاهات قصص عَبَرت مكتبك كدخان حطب ؟ ..
أعتقد سيدى القاضى بأن صوتى لم يكن لديك مسموعًا.. وكلماتى لم تجد آذانا صاغية .. ولا حياة لمن أنادي..
نظر إليها القاضى بمكر كأنه يقرأ من جديد تفاصيل قصتها، من بين سطور وجهها وتقاسيمه الشاحبة، ثم علق على كلامها بنبرة حادة، اختلطت بصوت السلطة حين تتصدى لصوت الضعيف فتخرسه : إنك سيدتى قد بالغت فى تصوير مشاهد قصتك بإحساس قوي، فأنصحك بأن تملئى وقتك بقضية أعظم من قضيتك هذه، فهى لا تستحق كل هذا الألم الذى تحملينه بداخلك .. كبِّرى عقلك سيدتى .. واتق الله فى زوجك .
.
حينها شعرت سلمى بصدى هذه الجملة يتردد .. أشبه بناقوس جرس يدق رأسها دقا قويا.. حتى أوشكت أن تقع مغشيا عليها .. فأمسكت برأسها واتكأت على سطح المكتب .. خرس لسانها وشلت حركتها .. فقدت إحساسها بكل ما يجرى حولها ..
نسيت بأنها داخل قاعة المحكمة وأنها تقف أمام القاضي، ولم تعد بحاجة للكلام، فتحركت نحو الباب وقبل أن تخرج، التفتت لتودع القاضى الذى انشغل عنها بترتيب أوراقه وملفاته، واستجمعت ما تبقى لديها من حطام امرأة وقالت: سيدى القاضى لقد ظلمنى زوجى ولم يكن عادلا معي، واغتصب حقوقى الشرعية، وداس على كرامتي، وأهاننى حين جعلنى أعيش حياة كئيبة باردة، وخذل إحساسى الجميل بصمته الدائم .. وكسر أحلامى بقسوته ورحل بعيدًا إلى منفاه، وأوراق عمرى تذبل بلا معنى ..
وأنا ما زلت أتساءل : متى سيقرر العودة إلى بلده وبيته وأبنائه ؟
ولو قرر العودة فليس لأنه يحبنى ولا لأنه اشتاق لأبنائه، إنما لأنه تعب من غربته ووحدته، ولأنه تعود على وجودى بحياته، فصرت مثل أباجورة تعود أن يراها كل يوم بمكانها .. ومثل فنجان قهوته يستمتع وهو يرتشف منه قطرات ساخنة ..
للأسف سيدى القاضى فأنت لا تشعر بما أشعر به سنوات، فقد تعودت على أن تجلس فى مكتبك تنصت لمشاكل الناس بأذنك لا بقلبك، وشتان بين أن تنصت بضميرك الإنساني، وبين أن تنصت بحاسة السمع المجردة من كل إحساس، فأنا أمامك أشبه بصورة معلقة على الحائط، لم يخالط إحساسك ألوانها، ولا إحساس من رسم تفاصيلها ..
فأنت سيدى القاضى مجرد مشاهد متفرج، لم تجرب إحساس من يقاسي، لم ترحل عبر تاريخه لتفهم كيف تتحرك الأحداث أمامه، وكيف يستقبلها ؟؟ ولماذا تصدر انفعالاته بقوة؟
لو جربت ذلك كنت ستدرك متى نملك أن نكبر عقولنا ومتى نعجز عن ذلك، ومتى نملك أن نصمت ومتى لا نملك إلا أن نصرخ ..
حينها لن تقول لى سيدى القاضي: اتق الله فى زوجك، بل كنت ستفكر من منا أحوج بسماعها وتطبيقها ..
وابتعدت سلمى، ولم تلتفت لتسمع رد القاضي، ولا تعليقه على اعترافاتها القاسية ..
خرجت حزينة كسيفة، وأقفلت الباب خلفها، ومضت فى طريقها، ومرت بين صفوف الناس لا ترى منهم إلا أخيلة وأشباحا مخيفة، وغادرت المحكمة لتلقى أقدارها، وهى تحمل بداخلها معاناة أشد من معاناتها الأولى ...
DR.safiaa@hotmail.fr