رئيس التحرير
عصام كامل

مصر الثانية انتصرت على مصر الأولى


ربما لا يدرك الكثيرون أن السجن مصيرنا إن عبرنا نحن الكتاب عن كل ما يدور في أذهاننا أو حتى وصفنا ما يقع في بلادنا بصراحة مطلقة، فنحن لا نستطيع وصف الواقع بموضوعية تامة؛ لأن الواقع بكل بساطة أسوأ بكثير مما نتخيل جميعا، والقيود جاهزة لتكبيلنا إن انفلت لساننا وصرحنا بما لا يحب البعض التعرض له ولكن.. يجب أن نقترب من الأمور بحذر شديد، مع إعطاء القارئ أيًا كان موقعه، ومكانه، ىومكانته أو حتى سلطاته، جرس إنذار لما نحن جميعا مقبلون عليه في مصر، إن استمرت الأمور على هذا الشكل الذي يعيد مصر ليوم 24 يناير 2011.


فقد حزنت نصف مصر التي يريدون لها أن تحيا وسط كل تلك المعطيات الخطيرة، بالأمس؛ بسبب براءة الإعلامي الأقوى في مصر أحمد موسى.. نعم حزنت وبالطبع فاضت مواقع التواصل الاجتماعي بالتعليقات والتحليلات الجريئة، التي لا أستطيع ذكرها؛ حتى لا يتهمني أحد بإهانة هيئة ذات سيادة وأواجه غيابات السجون التي لم يدخلها أحمد موسى ولا أي موسى آخر يمتلك وسيلة إعلامية، منحها إياه رجل أعمال من أصدقاء مبارك الأب أو الابن في زمن مصر المستباحة!

وقبل أن تتهمني أو غيري بالجبن، تذكر أولا أن صاحب القضية نفسه الدكتور أسامة الغزالي حرب، تهرب من إجابة سؤال بهذا الشأن مع إعلاميين يقبضون بالملايين في إحدى القنوات الخاصة.. وقبل أن تتهمه بالجبن أيضًا، تخيل نفسك في موضعه تواجه تهمًا لن يتكاتف معك فيها إعلام الإبراشي أو عيسى أو شردي أو أديب أو غيرهم ممن أظهروا هويتهم التي تكشف انتماءهم لمصر الثانية التي فرحت ببراءة موسى، ولكن قبل تبرئته حذرت وتوعدت وأنفقت ملايين في شكل دقائق فضائية مطالبة بسلامته ومتوعدة من يطالب بحبسه وفق القانون المصري!

فرحت مصر التي تكره ثورة يناير وتمقت أصحابها وتتمنى لهم العقاب السرمدي في ظلمات السجون، سعدت وفرحت بخروج رمزها الذي لا يكف عن وصف تلك الثورة بالخيانة الصريحة والمؤامرة الدنيئة، رغم أنها أساس لدستور البلاد الحالي، ورغم أن كبراء البلد كانوا ولوقت قريب جدا يتباهون بها وبشرعيتها وبإزاحتها لمبارك الصغير الابن، الذي كان يطمح ويسعى وينفق لاعتلاء عرش المحروسة!

فرحت مصر الثانية ذات القوة والثراء، بتبرئة رمزها وإعطائها صك حرية سب الثوار وتخوينهم، رغم أن كثيرا من هؤلاء كانوا معنا في التحرير بل إن نجما مثل إبراهيم عيسى الذي هنأ موسى، كان ملاصقا للبرادعي شيطان الثورة عند الكثيرين منهم، بل إن عيسى ساهم بأمواله في إنشاء قناة التحرير.. أي والله التحرير.. هذا الاسم الذي صار سُبة عند مصرهم الثانية.. ياه.. كانت أيام.

مصر الأولى الحزينة لم تكن لتفرح في سجن موسى؛ حبًا في الغزالي، فهو مع كل احترامي له، ليس له شعبية ثورية، ولم تكن لتشمت في موسى؛ لأنه يحظى بكل تلك القوة، فالنبلاء متسامحون يتناسون ذاتهم دومًا.. ولكنها كانت تسعى للقصاص المعنوي ممن سخر كل قدراته لسب ثورتها الحقيقية الشعبية الأولى في التاريخ المعاصر على أقل تقدير!

مصر الأولى الفقيرة ماديًا، الغنية بخلقها وكرامتها ونبلها وشهامتها، العفيفة التي تخجل من إعلانات التسول الرمضاني، التي كانت تحلم بوطن ثلاثي الأبعاد "كرامة، حرية، وبالطبع عيشة مرضية إنسانية"، لا تنتظر (شنطة رمضانية بجنيهات قليلة)، بينما هناك من يتربح الكثير من خيراتها المنهوبة، ولا يقنع بـ42 ألف جنيه شهريا، ويقيم دعاوى ضدها ويكسبها!

مصر الأولى مكتئبة وحزينة ومندهشة، ولكنها لا يمكنها تجاوز حدود صفحات التواصل الاجتماعي وإبداء الإعجاب برأي جريء أو حتى التخوف من إظهار إعجابها هذا؛ خشية من الملاحقة.. مصر التي انتفضت ضد الإخوان بكل براءة حتى تسترد ثورة يناير الحرية، فإذا بها تجد لعنات يناير قولا وفعلا هو واقعها الجديد.. مصر الأولى مكلومة ومجروحة، تحتاج من يحنو عليها بحق، بالفعل وليس بالكلام، بالعدل وفقط..

وبالطبع لا نستطيع التعليق على أحكام القضاء ولا غير القضاء، ولا نستطيع فعليًا فعل شيء غير الكتابة وبحذر وبحرص، فنحن لا نملك هذا الترف الذي لا تحمد عواقبه.. لنا الله.

fotuheng@gmail.com
الجريدة الرسمية