رئيس التحرير
عصام كامل

بالصور.. «شيخ العامود بالجامع الأزهر.. قبلة المصريين في رمضان».. يٌحيي في القلوب روحانيات الشهر الكريم.. على يديه تتلمذ الرواد في شتى المجالات.. ومدرجات الجامعة أنهت دوره إلى الأبد

فيتو

جلسوا ملتفين حوله، آذان مصغية، تعي ما يٌلقي عليها من علوم، ظلت تُدرس تحت أعمدة الجامع الأزهر لأكثر من ألف عام، تٌهدي إلى قلوبهم روحانيات تطوف بها في عوالم العشق الإلهي، وتسبح بها بعيدًا إلى أرض تظلها سماء ملئت رياحها بنسائم الحب.. في صحن الجامع الأزهر جلس العشرات يستعيدون ذلك المجد المندثر لـ «شيخ العامود»، وتلك الذكريات الجميلة التي يفوح عطرها بقدوم شهر رمضان المبارك.


جامع وجامعة
منذ هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة المنورة شرع المسلمون على مر العصور في تحويل الجامع إلى جامعة.. فقد كان المسجد النبوي في عهد النبي صلي الله عليه وسلم، جامعة مكتملة الأركان، وقبسًا يٌشع نورًا، ويٌهدي الحياة المليئة بالمحبة والسلام والعلم إلى كل الصحابة الكرام.
وتعاقبت السنوات، ومضت الحقب.. حتى جاء عام 975 ميلادية ليؤسس في مصر الجامع الأزهر، ليكون سراجًا تستقي من نوره، القلوب الوافدة لتلقي العلم، وسطية الدين، ويحيا العامة بين جنباته في سكينة تفوح من كل أركانه، وليصبح لشيخ العامود في الجامع الأزهر دورًا هامًا، فمعظم الرواد في شتي المجالات تتلمذوا على يديه، ومن كلماته عرفت القلوب قيمة الحب والعيش بسلام فوق أرض المحروسة.

حضارة علمية
فالأعمدة الصلبة التي وقفت شامخة تحمل أسقف الجامع الأزهر، لم تكن على مدى الحقب المتتالية، شاهدة على التاريخ المعماري، والإبداع في تشييد البنايات للحضارة الإسلامية، فحسب، بل هي شاهد على تاريخ ممتد من الحضارة العلمية التي فجرها جلوس مشايخ الأزهر تحت هذه الأعمدة.
فقد رٌوعي في بناء الجامع الأزهر أن يقسم إلى أروقة، كل واحد منها يحوي مجموعة من الأعمدة، يستند كل شيخ إلى أحدها، حيث يتحلق حوله الطلبة، لينهلوا من دروس العلم في مختلف مجالاته، وكل طالب يعرف بغيته، ويحفظ عن ظهر قلب عامود شيخه.

مقاومة الاستعمار
ومن أهم القادة الذين تتلمذوا على أيدي شيخ العامود، الزعيم الشعبى «عمر مكرم» والذي قدم من محافظة أسيوط، لتلقى العلم في حضرة الأزهر الشريف، وما لبث بعد تخرجه أن تولى نقابة الإشراف في مصر سنة 1793، ثم قاد حملة لمقاومة الاستعمار الفرنسى، كما كان صاحب الدور الأساسى في خلع خورشيد باشا عام 1805، ليتولى محمد على حكم مصر.
أدرك أن تكوينه العقلى لن يكتمل إلا بالهجرة إلى القاهرة، قبلة العلماء، ومحراب العلم.. هناك تحت عامود من أعمدة الجامع الأزهر، نهل «رفاعة الطهطاوي»، القادم من طهطا، كل قواعد النحو والصرف، وبالقرب من عامود آخر تشبعت حنايا صدره بعلوم الحديث، والسيرة النبوية، وبجوار شيخ عامود ثالث، تعلم الفقه، والتفسير، ليكتمل نموه العقلى، ويسافر إلى أوربا، ليعود إلى وطنه فيؤسس كلية الألسن التي ما زالت باقية حتى يومنا هذا.

شهادة العالمية
في مقتبل عمره، جلس الشيخ «محمد عبده» في رحاب الجامع الأزهر، طالبًا للعلم، يستقى دروس الفقه ويعيها جيدًا، لينجح في الحصول على شهادة العالمية، تلك الشهادة التي لم تكن تعطى إلا لمن يدرس إحدى عشرة مادة، يخوض بعدها امتحانًا بالغ القسوة، لم يكن ينجح فيه سنويًا إلا العشرات، الذين ينتشرون في محافظاتهم، حاملين لواء علم حقيقى، ومن هؤلاء الإمام «محمد عبده» الذي أصبح عالمًا وشيخًا لأحد الأعمدة فيما بعد، وقائدًا لرايات التنوير الإسلامي في العصر الحديث.

تخريج الأدباء
لم يتوقف دور «شيخ العمود» في الجامع الأزهر عند تخريج المشايخ فقط، بل تعداه إلى تخريج رواد في شتى المناحي، والتي كان منها الأدب، حيث تتلمذ على أيديهم العديد من الأدباء، الذين كان على رأسهم عميد الأدب العربى «طه حسين»، الذي كتب في سيرته الذاتية «الأيام» عن حلم أبيه بجلوسه إلى أعمدة الأزهر، والتنقل بين جنباته، وأفرد الجزء الثانى من كتابه، للأزهر وشيخ العامود فيه، وذكر أن هؤلاء الشيوخ الذين لم يحظوا بالشهرة على مر العصور، لكن علمهم وطّن لهم أن يكونوا جنودًا مجهولين في منظومة بناء العقل، ولم يعرف منهم إلا من يعد على أصابع اليد، مثل الشيخ المراغى، والإمام محمد عبده.

التواري عن الأنظار
وبمرور السنوات بدأ «شيخ العمود» يتوارى عن الأنظار ليحل بديلًا له مدرجات جامعة الأزهر، ورغم محاولات الشيخ أحمد حسن الباقورى، إعادة دور شيخ العامود لما كان عليه في الماضي، وذلك من خلال تأسيسه لكلية الدراسات الإسلامية والعربية داخل أروقة الجامع الأزهر، لكن لم يلبث أن مرت بضع سنوات، حتى انتقلت الكلية خارج حدود الجامع الأزهر، منضمة إلى مثيلاتها داخل الحرم الجامعى، لينتهى التاريخ الممتد والمفعم بالنجاحات لشيوخ تخرج على أيديهم الآلاف ممن أثروا الحياة المصرية في مختلف المجالات.

الجريدة الرسمية