اللّهُم قوّى إيمانكُم !!
ظهر التغير على الشارع المصري بشدة بداية من ثمانينيات القرن الماضى..فقد أتّقنا إغلاق الشوارع بالحصير الأخضر كل جمعة للصلاة، وتكدست الميادين بمصلي التراويح..بينما، وفى الوقت نفسه، تكدست المحاكم بدعاوى ومنازعات أكل حقوق الغير وأموال اليتامى.. والجور على الأرامل والمطلقات.
من لم تنههِ صلاته فلا صلاة له.. لكن المصريون، يصلون ويصومون، ويحتفلون برمضان، وينفقون مليارات سنويا على الحج والعمرة.. ثم يأكلون الحقوق، ويقذفون المحصنات.. أيضًا.
ازدواجية تمادت، وتصاعدت، وتوغلت.
ارتفعت نسبة الحجاب في الشارع 50% على الأقل مقارنة بما قبل 30 عامًا، لكن في الوقت نفسه، لم تنخفض نسبة التقاضي في الحقوق أمام المحاكم. ولا تناسب رقم نزاعات الأحوال الشخصية في المحاكم.. انخفاضا مقارنة بما بدا عليه الشارع من تدين.
لماذا هذا التناقض؟
لأننا نميل -عادة- إلى الطقس أكثر من المضمون، نحتفل باللفظ، أكثر من المعنى.. الاحتفال باللفظ عادة مصرية.. ففي حلقات الذكر مثلًا؛ غالبًا ما تتصاعد الأصوات بالتراتيل حبًا في النبي، وجمال النبي، وكمال النبي.. بينما تندر قراءة القرآن في خيم المتصوفة، أو في الموالد والمناسبات الدينية.. ولا تسمعهم يتجاذبون أطراف الحديث في تفسيرات آياته، ولا أحكامه !
بالوراثة، والتقاليد.. يبدو أننا ملكنا سمات الدين، لكننا لم نملك الدين. فلو كانت زيادة نسبة المحجبات، وحرص الشباب على تراويح الشهر الكريم، مؤشرًا على زيادة النزعة الدينية في الشارع؛ فإن وجه العملة الآخر كان يجب أن يقابله استقرار اجتماعي من نوعٍ ما.. فتنحسر، مثلا، نزاعات الجيرة، وتقل، على سبيل المثال، مشاحنات الطريق..وتتداول حقوق العشرة؛ فتصبح الأموال والأعراض والأنفس مصونة بإلزام المجتمع المتدين.. لا جبرًا بقوة القانون.. أو عسكري الدورية.
لكن هذا لم يحدث؛ لذلك..زادت أعداد المتهجدين في العشر الأواخر من رمضان السنوات العشرين الماضية.. بينما زادت في الوقت نفسه جرائم القتل والسرقة وقطع الطريق، وتكدست صفحات الحوادث بقصص "زنى المحارم"..وتفاصيل كثيرة عن اعتداء الأبناء على الآباء..حتى قتل بعضنا بعضًا داخل المساجد.. خلال صلاة الجماعة.. طلبا للثأر أو نزاعا على شقة !
قبل وفاته؛ همس لي عالم الاجتماع الفذ الدكتور أحمد المجدوب، أن خبرة 70 عامًا أتاحت له استخلاص نتيجة مؤكدة: "المصريون عندهم برد". قال: المصريون أصابتهم أعراض الإنفلونزا، تكسير في الجسم.. احمرار في العين، اضطراب في الرؤية.. واضطراب في السلوك، وفي محتوى التفكير.. أيضًا.
للشعوب "إنفلونزا" مثل "إنفلونزا البني آدم".. وللأزمات الاجتماعية أعراضها. أعراض إنفلونزا المصريين ظهرت في وقوف الموظف دقائق بين يدي الله في صلاة قصيرة، قبل عودته لمواربة درج المكتب.. للرشاوى.. وتفتيح المخ !
صحيح.. نحن المجتمع الوحيد الذي أضاف أسماء حركية لـ"الرشوة"، سميناها مرة "إكرامية".. ومرة "تفتيح مخ".. قلنا عليها تارة "مفهومية"، وتارة أخرى "ميه".. من يجرى الماء جريانًا، قبل أن نسميها "شاي".
الوحيدون الذين سموا الرشوة "شاي" هم نحن.. وكانت الملاحظة، أنه عادة ما يتلذذ موظف الحكومة "المؤمن" باحتساء "الشاي" بعد كل صلاة.
غريبة قصة مجتمع مؤمن بيموت في الشاي.. اللهم قوى إيمانكم يا شيخ !
Twitter:@wtoughan
wtoughan@hotmail.com