رئيس التحرير
عصام كامل

ثقافة النخب.. ومواجهة العنف والإرهاب


منذ شهر تقريبًا، شاهدت مذيعًا في إحدى القنوات يتهمني بأن سبب تركي الإخوان هو أنني لم أبلغ مرادي في تولي منصب المرشد، وأنني حزنت لذلك و"اتقمصت" - على حد تعبيره - فكان الخروج أو الانشقاق، وأن المسألة لم تكن عن قناعة بأخطاء في الفكر والفهم والممارسة، وبهذا اتفق المذيع وبعض - إن لم يكن كثيرًا - من الإخوان في هذه الفرية، أليس هذا عجيبا ومدهشا؟


واضح أن المذيع المذكور غير متابع بشكل دقيق للوقائع والأحداث، كما أنه لم يقرأ ما كتبت.. ربما لم تتح له قراءة الحلقات العشرة التي نشرت بجريدة الشروق خلال شهر فبراير ٢٠١٥، وكيف أنني تقدمت في ٢٦ أكتوبر ٢٠٠٩ باستقالتي من منصب النائب الأول للمرشد ومن عضوية مكتب الإرشاد، لكن المكتب رفض ذلك، وكيف صرحت لـ"عاكف" في نوفمبر ٢٠٠٩، بأني لا أريد المرشدية ولا أسعى إليها، لكن المهم هو أن نصلح من الخلل الجسيم الذي أصاب الجماعة من رأسها لقدمها، وهو ما يتطلب بقاءه على رأس الجماعة ولو لمدة عام آخر، وتم الاتفاق على ذلك، لكن الرجل - للأسف - نقض الاتفاق ونكث بالوعد(!)

يبرهن المذيع على قوله بأنني مازلت على قناعة بفكر "البنا"، الذي يعتبره أساس الرزايا والبلايا، وأني دائم الإشادة بمواقف المرشد الثالث - أو بالأحرى الرابع - للإخوان، أي عمر التلمساني.. والحقيقة أنني حتى بعد عام من خروجي من الجماعة - كان تقديري "للبنا" يفوق الحدود، وأن الرجل كان مجدد زمانه، لكن مع ذلك لم أكن - كما الآخرين - أضفي على "البنا" أي قداسة أو عصمة، وأنه اجتهد وفق معطيات هذا الزمان، فأصاب وأخطأ، وكان على الجماعة أن تعيد النظر في فكر الرجل ومنهجه..

وقد ذكرت في أحد مقالاتي بـ"المصرى اليوم"، أن مكتب إرشاد الجماعة (في منتصف الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي)، انقلب على فكر "البنا" في ٤ قضايا رئيسية، هي الشورى، المرأة، التعددية السياسية، والعنف.. وكان عليه أن يقوم بمراجعة وإخضاع الفكر كله للتقويم، لكنه - للأسف - لم يفعل، فقد كانت كل الأمور مؤجلة بسبب التضييق والملاحقة والمطاردة والاعتقالات والمحاكمات العسكرية..

ويكفي أن يقال إن مجلس شورى الجماعة لم ينعقد طيلة ١٦ عامًا، في الفترة (يناير ١٩٩٥ - فبراير ٢٠١١)، وأن عدد الإخوان الذين تم اعتقالهم في الفترة (١٩٩٥ - ٢٠٠٥) بلغ نحو ثلاثين ألفا..

وعلى مدى عام تقريبًا، كتبت عدة مقالات في "المصري اليوم"، بلغت ١٩ مقالا تحت عنوان "البنا في الميزان"، تناولت فيها - بالتقويم - كثيرًا من القضايا التي أثارها "البنا"، مثل قضايا: الحزبية، الوطن والمواطنة، الخلافة، جنسية المسلم، القتال في الإسلام، والتنظيم السري للجماعة، وغيرها، وقد رصدت فيها أخطاءً قاتلة، فليرجع إليها من شاء.. لم يكن الهدف هو هدم أو إصدار حكم بالإعدام على كل ما قاله "البنا"، وإلا فقدنا الموضوعية والحيادية والإنصاف..

وقد اتفقت مع الرجل في أمور، واختلفت معه في أمور أوضحتها وبينتها.. لكن - للأسف - الثقافة التي تخيم على مجتمعنا الآن، خاصة على مستوى النخب، ثقافة مدمرة، ثقافة إما أن تكون معنا أو ضدنا، لا وسط بينهما.. ولا يكفي أن تكون معنا، بل عليك أن تصب جام غضبك وكراهيتك وحقدك على الطرف الآخر، وأن تنعته بكل سيئ وقبيح.. قد يطلب منك أيضًا أن تكون شتاما وبذيئا ولعانا، ومتهمًا خصمك بالعمالة والخيانة، وإلا فلست معنا.. مطلوب منك كذلك أن تهدم تاريخ الخصم، مهما كانت إيجابياته، وحبذا لو استطعت أن تحولها إلى سلبيات..

إن الإنسان يفقد مصداقيته، إذا فقد الموضوعية والحيادية والإنصاف، أو إذا تكلم في موضوع لم يحط به من كل جوانبه ولم يعطه حقه من البحث والدراسة، أو إذا ألقى التهم جزافًا على الآخرين بغير دليل أو برهان..

يظن البعض أنه بمقدورهم إلغاء الإخوان من الوجود، أو طمس معالمهم، أو إسدال الستار عليهم؛ نظرا لما انزلقوا إليه وتورطوا فيه من عنف وإرهاب، فيصبحون أثرًا بعد عين.. وأعتقد أن هذا التصور غير واقعي، فضلا عن أنه يتصادم مع حقائق التاريخ..

إن التشخيص الدقيق للعلة يعين على علاجها، وهذا البعض ينسى أن الإخوان قبل أن يكونوا جماعة وتنظيما، هم فكرة، فيها الصواب وفيها الخطأ.. ثم إنهم موجودون في دول كثيرة من العالم.. هذه الثقافة الإقصائية، أو بالأحرى الإعدامية، قلما تثمر، وعادة تكون نتائجها سلبية..

يا سادة.. العنف يجب أن يواجه بالعنف في إطار الدستور والقانون.. ينص الدستور في مادته (٢٣٧) على: "تلتزم الدولة بمواجهة الإرهاب، بكل صوره وأشكاله، وتعقب مصادر تمويله باعتباره تهديدا للوطن والمواطنين، مع ضمان الحقوق والحريات العامة، وفق برنامج زمني محدد.. وينظم القانون أحكام وإجراءات مكافحة الإرهاب والتعويض العادل عن الأضرار الناجمة عنه وبسببه".. أما الفكر - الذي يعتبر السبب الحقيقي للعنف - فيجب أن يواجه بالفكر، بشكل جاد وموضوعي؛ حتى يحدث الأثر المطلوب.
الجريدة الرسمية