رئيس التحرير
عصام كامل

دموع بقاعة المحكمة 2


ظلت سلمى تتقلب بين أوجاعها، تنسج فى خيالها نسيج الحياة، تعزف على أوتارها نشيدا ثائرا متمردا، وهى بين مد وجزر هائمة شاردة.. فجأة سمعت صوتا آتيا من بعيد، رحل إليها من زمن سحيق، عَبَر أدراج ذكرياتها، شق كثبان رمالها متناغما، حط على أغصانها مغردا باسمها ..

حينها دق ناقوس قلبها دقات متلاحقة، فاستفاقت من غفوتها وتخلصت من شرودها، وتحركت بخطى مسرعة نحو مكتب القاضى، وإذا ببوابة كبيرة تفتح على مصراعيها، فتقدمت حيث يجلس رجل وقور، أخذت تحدق بملامحه الصارمة وهو يقلب أوراقه وملفاته المتناثرة على سطح مكتبه.
ظلت صامتة وهو صامت لفترة طويلة، بعدها رفع نظره إليها وخاطبها بصوت هادئ: تفضلى سيدتى اجلسى وأخبرينى عن مشكلتك، ولكن كم تحتاجين من الوقت؟؟
هنا تملكها الخجل واحمرت وجنتاها وترددت فى الإجابة، ثم استدركت نفسها وقالت: أظن أن ساعة من الزمن تكفينى لسرد قصتى، ثم انطلقت تحكى حكايتها، وتعرض شريط ذكرياتها ومشاهد تجربتها القاسية مع زوجها، شعرت وكأنها تعيش تلك الأحداث بتفاصيلها من جديد، بنفس إحساسها بالألم الذى تجرعت كئوسه حتى الثمالة.
حتى أوشكت الساعة المحددة أن تنتهى فدق الجرس فجأة، وتحرك القاضى من مقعده وتمتم بكلمات باردة: تفضلى سيدتى، يمكنك الانصراف ...
شعرت سلمى بصدمة، فمازال بقلبها دقات صارخة، وحقائبها مشحونة بالحكايات، وبين جوانحها لهفة تشقُّ صدرها شوقا للحياة.
أخذت تحدث نفسها بصوت خافت: ماذا سيحدث لو انقضت هذه الساعة وأكملت تفاصيل قصتى؟ هل هناك من يحمل أكثر مما أحمله بصدرى من أوجاعى؟ هل هناك قضية أخطر وأعظم من قضيتى؟ هل هناك من ينتظر هذه الساعة كما انتظرتها سنوات؟ ..
ما أحوجنى إلى أن يسعفنى القاضى وينصت لبقية قصتى، ويخلصنى من هذا السجن المؤبد الذى وضعتنى فيه زوجى، لقد اشتقت لاستنشق نسائم الحرية، وأحلم بأن أبدأ حياة جديدة، مفعمة بالأمل والفرح والسعادة..
استجمعت سلمى ما تبقى لها من جرأة، وأرسلت كلماتها دفعة واحدة وقالت: سيدى القاضى أنا لن أغادر هذا المكان حتى أكمل قصتى، تعبت من الانتظار، مللت من حكاياتى المعلقة، من اليأس يقتلنى، من الخوف يهزمنى، لن أستسلم بعد اليوم لصمتى، ولا لقانون هذه المحكمة..
ابتسم القاضى ابتسامة مصطنعة، وكرر عليها بصوته الهادئ: ولكن يا سيدتى قد حان وقت رحيلك، وعليك الآن أن تغادرى هذا المكتب، فهناك قضايا أهم من قضيتك على أن أنظر فى شأنها..
عودى إلى بيتك سيدتى وحاولى أن تكونى سعيدة، وتعايشى مع واقعك، وتأكدى بأن علاجك فى النسيان فهو نعمة عظيمة، وتخلصى من كل ملفات ماضيك الأليم، وابدئى حياتك من جديد.. (..) يتبع
DR.safiaa@hotmail.fr

الجريدة الرسمية