البحث عن إنسان!
الإنسانية.. الفريضة الغائبة عن بلادنا، بسبب تبدل سنن السياسة ونزاعاتها الانتقامية.
لا أفهم حتى الآن لماذا انتظرت الدولة حتى تحدث حالة الهياج التي انتابت الوسط الصحفي، والمنظمات الحقوقية للقيام بواجبها تجاه العناية بالصحفي هاني صلاح الدين، المنتمي فكريا وسياسيًا لجماعة الإخوان والذي كان على وشك فقد بصره في السجن بسب الإهمال في علاجه طوال الفترات الماضية منذ تفجير القضية، وحتى توسط نقابة الصحفيين لدى الداخلية، لكي تقوم بواجب إنساني وقانوني، لا يحتاج بالأساس إلى وساطة نقابية.
تحتار أحيانا في وصف الموبقات التي تتسخ بها ثقافة الخلاف لدى مجتمعنا، فما حدث مع "صلاح"، حدث بالماضي القريب أيام الإخوان في تعاملهم مع مُعارضيهم، وكأن الثورة التي قامت من أجل إنهاء مثل هذه الظواهر الغريبة والشاذة عن ممارسات جميع بلدان العالم المتقدم، أفرزت قيمًا في الهواء، مجرد فقاعات وهمية، سرعان ما ابتلعتها الشرور الكامنة في أعماقنا، والتي تربينا عليها، ويبدو أنها أصبحت عصية على الخُلع من أدبياتنا للأبد.
بلا شك، لا ينكر عاقل أن تعقيدات المشهد السياسي تبدو وكأنها تُعطي أصحاب القرار العُذر في تجاهل حقوق الإنسان، ولو بشكل مؤقت، مع أن المبدأ لا يتجزأ.
لن تستطيع إلزام الداخلية بـ"الإنسانية" في التعامل مع سجنائها، وهي في نفس الوقت "موجوعة " من غدر الجماعات الإسلامية، التي " تَجزُر " أبناءها بين الحين والآخر، بما يترك بداخل رجال الأمن الرغبة في الفتك بكل مَن هو على علاقة " ولو بالنية " بهؤلاء، وبالتالي مجرد مناقشتهم في مثل هذه التجاوزات يصبح دربًا من الجنون، بل وقد تُصبح من وجهة نظرهم " متآمر "، ومش إخوان بس بتحترمهم !
ولكن ما العمل ؟.. هل ستظل قيم الإنسانية غائبة عن هذا المجتمع، باعتبارها منذ عقود مرهونة بما يسمي الاستعداد الشعبي، وحالة التكيف المجتمعي لاستقبال رفاهية لم نتعود عليها، ولم نرق لمستواها من وجهة نظر من يتعاقبون على حُكمنا، سواء كانت لديهم المقدرة على إعلان ذلك، مثلما أعلنها الراحل عمر سليمان، أو الذين يتكتمون على رؤاهم، فيصدّرون لنا وجهًا دسمًا.. إما بالإيمان أو بالمشاعر، بينما هم في الحقيقة يعتقدون أن الإنسانية وقيمها ومعادلاتها تبدو في التوقيت الراهن خطيئة كبري.
الإنسانية حالة لا مبرر لها ولا عائق.. من تسكن أعماقه لابد وأن يجد لها التكيف السياسي والمجتمعي، ولن تقوم لنا قائمة إلا إذا حيدنا الإنسانية تمامًا، ربما تكون وحدها القادرة في المستقبل القريب على سد الفجوات والندبات الكبيرة التي أصابت المجتمع، وصدّعت أركانه!