إعلام التوافه.. وقضية البناء
ندرك أن مصر تسعى رغم كل ما تواجهه من تحديات وما تشهده من أحداث إلى إعادة بناء الدولة، وخلق واقع جديد يليق بمصر وحضارتها وشعبها.. وهي في سبيل ذلك تحشد كل طاقاتها.. أو هذا هو ما يجب أن يكون لخدمة قضية البناء، والتي يجب أن تكون نصب عين كل مصري..
وبناء الأمم والحضارات أمر مختلف إذ يستلزم ذلك بناء البشر قبل الحجر.. وبناء العقول قبل الأجسام، الأمر الذي يتطلب إيجاد إستراتيجية متكاملة لحشد كل القوى الناعمة وفي مقدمة ذلك يأتي الإعلام..
وأي مراقب للإعلام المصري، وخاصة الإعلام الفضائي منه يستطيع الجزم بأن منظومة الإعلام في مصر تتجه بالمجتمع نحو الاتجاه المعاكس، وبعيدا كل البعض عما نأمله وعما يجب أن تقوم به من إعداد وتأهيل المجتمع بحيث يكون قادرًا على بناء مصر الجديدة، مصر تقوم على العلم والإبداع في كل المجالات.
ولا يمكن لإعلام لا يكترث إلا بموضوعات تمعن في السطحية والإسفاف والتفاهة، ويخاطب الغرائز على شاكلة التحرش الجنسي، زنى المحارم، التحول الجنسي، الشذوذ، أعمال الدجل والسحر والشعوذة، لا يمكن لإعلام يشكك في كل الثوابت والقيم والرموز بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معها بغرض التشويه والهدم وليس الإصلاح والتقويم هو إعلام يشعل نيران الفتنة والتطرف ويغرس بذور الشقاق ويطمس الهوية ويهدم الإرث الثقافي والحضاري والتاريخي.
إن مثل هذا الإعلام الذي لا هم له سوى إثارة الضجيج وإشعال الخلافات والصراعات سعيًا وراء تحقيق مستويات أعلى للمشاهدة لضمان أكبر قدر من الإعلانات تضخ ملايين الجنيهات أو الدولارات بغض النظر عن القيمة، لا يمكن له أن يصنع عقولا أو يبني ثقافة، أو يقيم فكرًا أو يدعم إبداعًا أو يؤسس أجيالا مؤمنة بالعلم والإبداع والحرية، قادرة على العمل والابتكار والاختلاف والتعايش، الأمر الذي يجعل الفضاء الإعلامي باعثًا على الإحباط ودافعًا لليأس، خاصة مع التوسع في عرض أعمال العنف والقتل والاغتصاب.
وإذا كنا جادين في تطلعاتنا نحو مستقبل أفضل وبناء مصر حديثة، فلابد من إعادة صياغة المنظومة الإعلامية في مصر وأن يتم وضع إستراتيجية إعلامية جديدة وفقًا لضوابط مهنية ومعايير أخلاقية وإنسانية وموضوعية تراعي ظروف المجتمع وقيمه وتراثه بعيدًا عن الشطط والترهات التي لا تفيد ولا تغني ولا تسمن من جوع.
إن أهمية الإعلام لا تكمن في مجاراته للآخرين والتقليد الأعمى والمزايدة التي صارت معتادة في كل الفضائيات، أو استخدامها لترويج الشائعات والأكاذيب، وتحويله إلى وسيلة للإلهاء، وإنما تكمن في القدرة على استعماله وتوظيفه بشكل هادف وعلى نحو يجعله قادرًا على التعبير الموضوعي في تناوله للقضايا المختلفة، وحتى تكون تغطيته للقضايا والأحداث تتوافق مع قواعد علم الإعلام ونظرياته بعيدًا عن العفوية والارتجال والعشوائية والفهلوة التي باتت مسيطرة على مجتمعنا في السنوات الأخيرة..