أعوذ بالله من الإرجاء.. وشر الإرجاء !
على مر التاريخ الإسلامي، سُمى السُنة بالمرجئة. وسموهم أيضا "القعدة".. والمرجئة من "الإرجاء" أو "التأجيل" و"القعدة" من القعود.. أو السكون. أو هم الذين أجلوا الحساب ( والفحص والنقد ) في كثير من قضايا العقيدة إلى الله يوم القيامة، لأنهم لم يجدوا لها حلولا دنيوية، فأوكلوا الفصل فيها إلى الله يوم الموقف العظيم.
سرى مفهوم الإرجاء بدءًا من موقعة الجمل، إذ وجد المسلمون وقتها، أن السيدة عائشة (رض) إحدى أمهات المسلمين وزوج النبى وإحدى نساء الجنة، قد خرجت لحرب على بن أبى طالب (رض) سيد شباب أهل الجنة أيضا !
كانت أزمة فكرية عظيمة التأثير، إذ ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ بنص قرآنى، فكيف إذا تعمد كل من على وعائشة ( رض ) حربا سقط فيها مسلمون..منهم صحابة ؟
هل يجوز أن يكون الاثنان على صواب ؟ طبعا لا. طيب إذا كان أحدهما على صواب، أفلا يكون الآخر على خطأ بالضرورة ؟
فهل يجوز إذن أن يكون أحد الذين بشرهم النبى (ص) بالجنة، سببًا في حرب تزهق فيها أرواح مسلمين، حرم كتاب الله قتلهم إلا بالحق ؟
أراح السُنة أنفسهم، فذهبوا إلى "إرجاء حساب المخطئ في الفتنة إلى الله يوم القيامة ". كان المعنى، أنهم أغلقوا متعمدين باب التفكير في أيهما يتحمل وزر من مات من المسلمين في حربى الجمل..وصفين.
الإرجاء كان حلا سريعا، لوقف تداول ما قد يثير أزمات فكرية، تستوجب إعمال العقل، بين متدينين، اعتادوا التعامل مع القضايا الخلافية، بمثل ما تعامل معها الجيل الأول من المسلمين !
لم يكن لحرب على وعائشة، نظير في عصور الإسلام الأولى. لذلك لم يجد الملسمون ما يمكن القياس عليه، أو التعامل معه وفق اجتهادات الأوائل. فأرجئوا المسألة. وتوارث من بعدهم الفكرة، التي ركبت على التراث، حتى وصلت إلينا، بوصفها معلومًا من الدين بالضرورة.
وعندما يدخل الإرجاء من الباب، تخرج القدرة على الفحص والنقد من الشباك.
مع الإرجاء، لا قدرة على التعامل مع القضايا الخلافية بالمنطق.ومع الإرجاء لا جرأة في الإفصاح عن أي ملاحظات عن تناقض في تفاصيل قضية ما، بين العقل..والنقل.
العقل عملية فكرية لها ضوابطها، للوصول من مقدمات إلى نتائج. بينما النقل، ليس إلا تراثا.. انتقل إلينا بالروايات، من الأجداد إلى الأبناء.
بعض أهل فقه السنة قالوا إن "النقل يبطل العقل".. وكانت المصيبة، لأن المعنى أن ما وصل إلينا بـ"النقل"..لا يمكننا أن نتعامل معه بـ"العقل" !
لو فتحت موضوع عذاب القبر، وقلت إن معظم ما جاء فيه تراث، وإن متون الأحاديث النبوية القليلة في الموضوع ( لا تزيد عن أربعة أحاديث يمكن حملها على المجاز لا الحقيقة ) ضعيفة الأسانيد، وكلها أحاد.. لا يجوز التأكيد بها على أمور عقَدية.. ما الذي تتوقعه من رد فعل ؟
المتوقع نفور كامل من المتلقى، لأن مفاهيم الإرجاء، والتسليم الكامل، ورفض إخضاع التراث إلى المنطق معوقات غالبا ما تنقل المناقشات من هادئة، إلى آراء في الأب والأم.. والجدود وأسلاف اللى خلفوا صاحب السؤال !
الفرنسى يوفان إيلى، وهو بالمناسبة ليس يهوديا، كما يبدو من اسمه، إنما من أسرة مسيحية، أسلم ووحد الله، منذ نحو 36 عاما، يقول إن أغلب مسلمى اليوم، ليسوا هم المسلمين الذين أرادهم الله. أو ربما لا يعرف أغلبهم مقاصد الله من الدين، كما أرادهم الله أن يعرفوه.
لماذا ؟
لأن أفكارًا تراثية كثيرة توغلت في عقائدهم، مع غياب القدرة على النقد، ومع تسليم كامل، وإرجاء.. كانت كلها عوامل كفيلة، بأن تقلب الدنيا لو رفض أحد إعادة الحديث بالعقل في عذاب القبر، كما رفضت من قبل أفكار أخرى..قالت إن الإعمار ليس مكتوبة على الإنسان منذ ولادته، وإن القرآن الكريم لم يجزم بأن الأرزاق مقدرة لبنى آدم منذ صرخة الميلاد الأولى، إنما صنع الله قوانين في الكون، تدور بها الأحداث، دون تقدير مسبق، ولا إملاءات !
السورى الدكتور محمد شحرور، قال هذا الكلام، في كتاب مشهور، اسمه الكتاب والقرآن. طلب فيه إعادة فتح باب الاجتهاد في مفهوم النص الدينى، لتنقيته من التراث.. لكن لم يصدقه أحد، وصادروه في السعودية والكويت والبحرين ودول الخليج، وهاجمه مسلمو أستراليا.. وبريطانيا، وعاش الرجل في بيته حبيسا سنوات.. حتى هدأت العاصفة !
صودر الكتاب والقرآن فى11 دولة إسلامية.. تمسكت هيئاتها الدينية، بأن باب الاجتهاد مغلق، بإجماع الأئمة قبل قرون، ولا يمكن إعادة فتحه. مثلما تمسكنا نحن، بأن "عذاب القبر" معلوم من الدين بالضرورة.
Twitter: @wtoughan
wtoughan@hotmail.com