رئيس التحرير
عصام كامل

«الحب الخفي» في قلب الخال عبد الرحمن الأبنودي.. صادق الدرويش فكان خليله في القاهرة.. كتب فيها: «لا تبحثي عن حلول.. الحل من جوه».. وآخر كلماته عنها: «كانت تلهمني»


هي الحب الذي لطالما ألهمه، فكان النزف الذي تزهو به كلماته وتطيب، ليصبح للأحرف عبق ينافس الشذى في عبيره، ويهدهد بلابل الأغصان إذا تدلل، ويحارب الكون إذا غص حلقه بالوجع العربي الذي يحاصره.


كانت فلسطين دائما، عشقًا يسكن قلب ومحيا الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي، حلمًا رباه في قلبه، وصار يكبر معه طوال سنين عمره، حتى وافته المنية ظهر الأمس، فكانت القدس هي الأكثر ألمًا ووجعًا بعد مصر على رحيله، فصارت للكلمات غصة ومرارة لا يحتملهما المرء، فقدت مصر وفلسطين "عكاز" كلماتها، وعبير نسائم الشعر والقوافي.

الأبنودي والدرويش
مر العام تلو العام، لم نشعر بالأيام والأحداث المفجعة التي توالت واحدة تلو الأخرى، ففي الأمس القريب مات "الدرويش" الشاعر محمود درويش، فكانت الأرض تبكيه قبل البشر والشجر، ويحن إليه طاحون خبز أمه، وكان يشتاقه "الأبنودي"، إذ كانت تجمعهما صداقة كبيرة مذ أن كانا في مقتبل الطريق، يمشيان على خطى الشعر بخطوات متهادية، تحاول البحث عن الألم والجرح العربي اللذين مررا أيامهما.

فما كان "الدرويش" يزور مصر إلا و"الأبنودي" أول المرحبين والمرافقين له خلال أيامه بالقاهرة، يتناثران حروف الشعر فيما بينهما، ويجمعانها بعد أن تحمل أحرف كل منها روح الآخر، فلك أن تتخيل شعرًا ينزف صبابة الصعيد المصري والثورة الفلسطينية، معجونًا بروح كل منهما.

تجاوز الموت
ولم يكن لـ"الدرويش" و"الأبنودي" أن يفترقا حتى بعد الموت، فقد تجاوز كلاهما كل هذه الكلمات العابرة في قاموس اللغة النابض من قلبيهما، وكان "الأبنودي" أكثر من تأثروا بوفاته، فقال: "كنا وما زلنا وسنظل أنا ومحمود درويش صديقين قريبين، فثمة نوع من البشر غير قابل للموت منهم محمود درويش، وحينما نقرأ شعره نجده يتجاوز قضية موته".

يا قدس
ولم تقف حدود عشق "الأبنودي" لفلسطين عند أبواب "الدرويش"، بل إنها طرقت هذه الأبواب لتدخل الحارة الفلسطينية من أوسع أزقتها، لتقبل مفتاح العودة وتطمئنه وتعده بالديار التي أقصاه الزمان عنها، تراه ينثر عبير الكلمات في الروح الفلسطينية، فتارة يشد على اليد التي تحاول دك المحتل وتقاومه، وتارة تلعن الخنوع العربي تجاه القضية، وكانت آخر رسائله للقدس: "يا قدس.. قولي لحيطانك اثبتي بقوة.. حيخلصك ابنك اللي أنا مانيش هو، لا تبحثي عن حلول.. الحل من جوه".

وكانت آخر محادثة جمعت الأبنودي بالسفارة الفلسطينية في القاهرة منذ قرابة الشهرين، حيث حدثته السفارة لاستئذانه في استخدام بعض نصوصه في مجلة "العاصمة المقدسية"، فقال الأبنودي نصا: "متسألنيش السؤال ده ثاني، الفلسطينيون ليهم الحق يأخذوا النص اللي عاوزينه في الوقت اللي عاوزينه، دول هما اللي كانوا بيلهمونا، تيجي دلوقتي تقوللي استأذن؟"
الجريدة الرسمية