رئيس التحرير
عصام كامل

حوار ما قبل الرحيل.. الأبنودي لـ«فيتو»: تعلمت التعامل مع الحياة بقساوتها.. «السجائر» حرمت ابنتيّ من غرفتي.. طفولتي سعيدة رغم شقاوتها.. كتبت الحب في «زوجتي»..ومشيت وراء ال


يكفي أن يُنطق اسم الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي، لتستحضر الأذهان كلمات أشعاره التي اخترقت مفارق النفس، لتكون صوت الضمير وقت الحرب والسلم، فأشعاره تعد علامة فارقة في تاريخ الشعر العربي، وبصمة بل ظاهرة من الصعب تكرارها، وفي اليوم الذي غابت فيه شمس الأبنودي، وإعمالا بمبدأ أن الشاعر لا يموت، تعيد " فيتو "نشر جزء من آخر حواراتها مع الخال.


لماذا اخترت ريف الإسماعيلية سكنا وابتعدت عن مركزية القاهرة ؟

أنا في هذا المكان عبد الرحمن الأبنودي الحقيقي، كما ولدت وعشت، أمارس نفس الأفعال التي كنت أمارسها وأنا صغير، أزرع وأتامل شجرة، ومعي زوجتي، أقرأ كما لو لم أقرأ من قبل، عندي مساحة من الأمان والخصوصية، وعدم توقع العدوان على وقتي، ونظام حياتي، وهذا يجعلني في راحة شديدة للقراءة والكتابة، والآن أكتب أشياء من نوعية " التصنيع الثقيل".

فلم أكن أستطيع كتابة " ابن عروس والمربعات"، وسط زحام القاهرة، وهو ما يعد التزاما قاسيا لشاعر، ينتظر الإلهام الوحي يوميا، فلولا هذا الهدوء والخصوصية، التي أنعم بها في هذا المكان، ما كان من الممكن أن أكتب طوال عام الإخوان، وأغطيه كاملا بكل أحداثه ومشكلاته، ومشاعرنا تجاهه، وبكل ما فعلوه بمصر، وفعلته هي بهم، والذي جمعته في " المربعات"، الذي لا يعد كتابة تقريريه، أو مباشرة، وإنما شعر حقيقي، ونوع من التسجيل والتدوين، لكل ما مر بنا في العام الأسود الملهم.

إذا هل اكتشفت وسط هذا الهدوء ما لم تكن تعرفه عن نفسك؟

اكتشفت أني طباخ شاطر، فأعمل أكلي بيدي، وعدت لأعمل طعامي القديم، الذي تعلمته من خلال رفقتي للوالدة فاطمة قنديل، خاصة أن السيدة نهال كمال لم تدخل مطبخ من قبل.

رغم تركك للصعيد منذ زمن طويل إلا أن لهجتك وسماتك لم تتغيرا.. ما السر ؟

- الميزة والعبقرية، إنك مهما تغربت يظل الطبع المصري داخلك، لذا يتعرف المصريون على بعضهم سريعا في الغربة، فالمصري له خصائص لا تظهر على وجوه الآخرين، وصعيد الفقراء بالأخص يصنع هذا، وبالتحديد صعايدة الحقول والشقاء والفقر، والتعامل مع الطبيعة والحياة بقسوتها الحقيقية، وضروراتها، فإذ لم تأت بلقمتك سوف تموت، عكس صعيد المدن الذي شابتها شيء من الزيف والاغتراب.

كيف أثرت الحياة الريفية البسيطة في حياة الأبنودي الشاعر؟

- عشت طبيعة الطفل الريفي، رعية غنم، ومشيت وراء الحصادين، وجناة القطن، وصعدت النخيل، ليس على سبيل الرفاهية، بل لضرورات حياتية، كما كنت محاصرا دائما بكل مأثوراتهم وبكائياتهم وغنائهم، وسمار الرجال، وتبادلهم مربعات وأشعار، وضحكات الكبار، وما احتوته من حكم كثيرة، إلى جانب أنين المرأة وحزنها التاريخي.

بالإضافة إلى الملاحم والأذكار الدينية، وكنت لا أعني الاحتفاظ به، بل هو الذي لصق بي، فلو أتيح لكل أبنودي، ما أتيح لي، لكانوا جميعا شعراء كبارا، وأظن أن رعاية الأغنام هي الأب الشرعي لأشعاري، فالراعي إما شاعر أو نبي، فتتاح لك فرصة للتأمل في الطبيعة التي تتشكل أمامك، وتساءل من الذي خلق هذا الكون، ونظمه.

كما كنت محاطا بغناء الشواديف والنوارج، فالغناء كان ضرورة، لتحمل أعباء العمل، وكان أشبة بإنسان آخر يقاسمهم الحمل، إلى جانب الجو الأسري، الذي ساهم في تكوين شخصيتي، وساهم كل هذا في شحني بالأدب الشعبي، وعندما انتقلت للمدينة للعيش مع والدي، وكان شيخا ومأذونا شرعيا، وضيوفه أساتذة لغة عربية، أتيحت لي فرصة التقارب من أدب التراث العربي الفصيح، هذا إلى جانب تنبهي للشعر في وقت مبكر، وعندما عدت لأصدقائي وأحبائي في المرعي، حدث حاجز بيني وبينهم فأدركت هذا وقررت أن اكتب بلغتهم عن همومهم.

إذا نستطيع القول إن طفولتك لم تكن سعيدة ؟

- بل العكس فقد مارست طفولتي بشكل طبيعي جدا، فكنت شقيا للغاية، أصعد الشجر، وأصطاد الأسماك واليمام من أجل الأكل، فأنا من أكثر الناس التي عاشت طفولة حقيقية، وما زالت طفولتي عالقة بي حتى الآن، وأمي فاطمة قنديل أيضا ماتت طفلة، بها هذا النزق الطفولي، فكانت طفولة سعيدة جدا رغم شقائها.

متى قيل لك عيب.. حتى على السيجارة؟

كثيرا ما سمعت هذه الكلمة، والسجاير تعلمتها مع أمل دنقل، بعد ما تم تعييننا في محكمة قنا، فكان اللي حابب يمشي مصلحته، يقدم لنا سيجارة، وهو أفضل من الصعيد، الذي يكرم ضيوفه بالبانجو أو الحشيش والأفيون، لكن لم أكن أستطيع التدخين وسط أهلي، وظللت أدخن لفترة طويلة حتى قضت على الرئة، وعندما أقلعت عن التدخين، وفتحت غرفتي دخلت ابنتاي لأول مرة، فكانت السجائر حاجزا بيني وبينهما لسنوات، وكان دخولهما أشبه باكتشاف مقبرة فرعونية، فظل يقلبان فيها بغرابة شديدة، واكتشفت بعد ذلك أن السيجارة لعبة استعمارية حقيرة جدا.

شعرك يعكس مدى همومك.. لكن من يجالسك يشعر أنك مختلف تماما.. ما أوجه الاختلاف؟

طول عمري مهموم بوطني جدا، ولا أحب هؤلاء الذين يقفون أمام الميكرفون ويخطبون الخطب المحفوظة، إحنا بني آدمين، لا يوجد شيء اسمه الوطن، فهو أبسط من ذلك هو يعيش بداخلنا، فكثير يحولون الوطن لصنم وخطب عنترية، لا قيمة لما يقولون، فليس مقبول أن أظهر أمام الناس بصوت مرتفع أني حزين أو سعيد من أجل الوطن، ولكن شعوري داخلي، أعبر عنه بهدوء، ويظهر في أشعاري، ويحثه الغلابة الحفاء العراة، مثل إحساس المثقف له، وبكتب عن الوطن مثل كتابتي عن حبيبتي.

متى كنت أكثر حزنا على وطنك ؟

مرت مواقف كثيرة جدا أحسست بالحزن على الوطن، مثل النكسة، لذلك كتبت أكثر أغنية حزينة مثل " عدى النهار"، وساهمت في الحرب بأغنية  "صباح الخير يا سيناء"، وفي نفس الوقت ممكن أكتب قصيدة حب في زوجتي وبناتي، فلا توجد فواصل في الشعر، كما لا يوجد شاعر وطني، وغير وطني، لكن يوجد شاعر صادق وآخر مفتعل، وشاعر نجار وآخر صداع.

ما الوقت الذي يكتب فيه الخال أشعاره ؟

أكتب شعري في حالة حزن أو سعادة الناس، فالشعر يأتيني بنفسه، خاصة أني متصالح مع نفسي، وأكتب الشعر لوجه الشعر، ولا أقصد أحدا فيه أحدا، وعندما أنتهى من الكتابة أشعر وكأني أمتلك كنوز الدنيا، فهي المتعة الحقيقية في حياتي، فالشعر مثل الإنسان الصعيدي، إذا خنته مره يخونك للأبد.

هل من الممكن أن يتكرر عبد الرحمن الأبنودي ثانيا ؟

مصر طراحه وسيظهر شعراء أفضل منا ألف مرة، فمصر تتقلب على ظروف مختلفة، وأزمنة أخرى، فنحن أبناء الستينات كانت حياتنا شديدة الجدية، فكانت معارك وحروب، وليس نحن فقط جيل عبد الناصر، بل كان هناك جيفارا، وكاسترو، ونهروا، وغاندي، فالستينات كان زمن عمالقة الشعر، وكانت مصر مليئة بالكتاب القامات، والمردة.

إذا ما رأيك شعراء الجيل الحالي؟
تتراوح الأعمال هذه الأيام ما بين الجيد وغير الجيد، لكن الزمن ليس كسابقه، فقديما كنت أكتب الشعر على مقهى " إزافتش"، يقرؤه بهاء طاهر، وصلاح عيسى، وإبراهيم فتحي، وجمال الغيطاني، وجابر عصفور، لكن الآن صعب التواصل حتى عبر التليفون.

هل الأجواء المحيطة بك لها دور في كتابتك للشعر؟

نعم، فقد كتب أعظم أشعاري عندما جلست وسط الصخور أثناء بناء السد العالي، وكذلك تجربة حرب الاستنزاف على خط القناة، لذا أقول عن سكان القاهرة مساكين، هيعيشوا ويموتوا فقراء الروح.

وماذا عن السيرة الهلالية ؟

أفادتني جدا، فقد جمعتها من جبال قرب شلاتين، من أناس لا تعلم لغتهم، لذا كنت أصطحب مترجمين، وأحببت جمعها لأني كنت شاعرا جيدا، لكن سيتذكرني الناس بالسيرة الهلالية، إلا أنه ومع أني تنقلت كثيرا، إلا أني أقول مصر لم تكتشف حتى الآن، وأتمنى من الحكم الجديد أن يكتشفها، فأجمل ما قاله السيسي هي جملة " لا بد وأن نسترد مصر"، وهي الثورة الحقيقية التي ناقشتها معه طوال جلستي، فعلينا الخروج من الوادي.

رأيك في شباب هذه الأيام؟


شباب النت يظنون أنهم مثقفون، يعيشون على النكت والتهكم على الناس، لذا لا بد من جمع هؤلاء الشباب وتثقيفهم، ووضع أطر جديدة لإعادة تثقيفهم وتدريبهم على القراءة.

قديما كنا نرى جلسات لكبار الكتاب مثل نجيب محفوظ ويحضرها مئات الشباب.. لماذا اختفت هذه الأيام؟

أنا من أبناء تلك الجلسات، لكن القامات الأدبية الكبيرة مثل نجيب محفوظ، يوسف إدريس، وعباس العقاد، انتهت، نحن نعيش زمن ما بعد القامات، وقديما كان زمنا جماعيا، ولا يوجد احتكار للمعرفة، لكن الآن الكبير يريد أن يكون وحده، ويتخلص من الآخرين.

هل تطرق إليك الملل من تكرار كتابتك للشعر؟

كل قصيدة جديدة أكتبها أشبه باسترداد البكارة، وكأني لأول مرة أكتب، فمتعة انفتاح القصيدة أمامي أغلى من أموال الدنيا، أما في لحظة أزمات الوطن، تجدني أصرخ، وأقول الشعر بشكل مباشر أو غير مباشر، ففي نجدة الوطن، تطلع الكلمات، في صورة غنوة أو موال، يتزاوج فيه الشعر والصرخة، مثل " عدى النهار".

على ذكر " عدى النهار" ما رأيك في عبد الحليم؟

عبد الحليم كان مواطنا صالحا، واكب الثورة، تزامنا مع انطلاق أغانيه الوجدانية العاطفية، ولم يتقاض مليما واحدا أجرا لأغنية وطنية، وقت ما كان ثمن الأغنية في منوعات الإذاعة بخمسة جنيهات، وكنا في فترة الستينات في أشد العوز إليها، لكن كان لوطني معنى غال جدا، عكس أيام السادات ومبارك التي جُرفت فيه كلمة الوطن، فنحن مازلنا في عصر مبارك، ويوم نطوي عصره، حينئذ يمكن القول إن الثورة حققت أهدافها.

الوطن كما هو.. لكن لماذا تراجعت الانتماءات ونشاهد مئات الشباب يبحثون عن الهجرة؟

في جيلنا كنا مخلصين جدا في عشق الوطن، وكنا مؤمنين، وهو ما دفعني للعيش وسط العقارب أثناء بناء السد العالي، والمدافع في حرب الاستنزاف، من أجل كتابة أغنية، لكن الآن راح الوطن، وهو ما يجعلني أقول نحن نريد استرداد مصر.

ولماذا هاجرت يوم ضيق عليك الخناق من قبل نظام السادات؟

لم أهاجر بل دعيت لمؤتمر في تونس حول السيرة الهلالية، وقبل السفر ظلت المباحث تساومني على أصدقائي ووطني، ولما طلبت منها عدم الاتصال بي مرة أخرى، فوجئت بعد ساعتين، باتصال يخبرني أن جواز السفر موجود بالمطار، واذهب لتلحق بالطائرة، ومن تونس توجهت للندن، وتقابلت مع الروائي السوداني طيب الصالح وقتها كان رئيس القسم العربي في قناة "بي بي سي"، وكانت أعمل معه لجمع الأموال، ثم أعود لتونس لاستكمال السيرة.


الجريدة الرسمية