رئيس التحرير
عصام كامل

جريمة في حــق العباقرة


أحد العجائب والغرائب في هذا البلد أن يتم حرمان المتفوقين المجتهدين النابغين من أوائل الخريجين والحاصلين على الدكتوراه من التعيين في وظائف حكومية.


آه والله العظيم.. لم يحدث هذا الحرمان والظلم والتعسف ضد المتفوقين دراسيا في أيام قوانين المخلوع مبارك فقط، بل يحدث الآن مع سبق الإصرار والترصد في قانون الخدمة المدنية الجديد الذي يفترض أنه يحقق العدالة التي كانت أحد مبادئ ثورة يناير، وكأن هناك من يصر على أن يحرض خيرة شباب هذا البلد على الانتحار.

لا أجد تفسيرا واحدا لإصرار أولئك الذين يصيغون قانونا لإعادة هيكلة الجهاز الإدارى للدولة وتخليصه من الترهلات التي لحقت به على حرمان عباقرة هذا البلد وأصحاب العقول النابغة والموهوبين دراسيا وعلميا من التعيين في وظيفة حكومية؟، اللهم إلا إذا كانوا يعتقدون أن الوظائف الحكومية لا تحتاج إلى أذكياء أو عباقرة أو موهوبين، وإنما إلى أولئك الذين يذهبون لتناول الأطعمة والثرثرة والنوم في مكاتبهم من الرجال، والذين يقشرون الثوم ويقطعون ورق العنب ويلفون المحشى ويقطفون الملوخية من السيدات.

ليس من المعقول ولا المقبول ألا ينص قانون الخدمة المدنية الجديد الذي يجرى إعداد لائحته التنفيذية تمهيدا لإصداره في يوليو المقبل، على تعيين أوائل الخريجين وحملة الدكتوراه، بينما تمتلئ دواوين الحكومة بعديمى الموهبة والخبرة والكفاءة من أبناء العاملين الذين يتقاضون رواتبهم من الدولة دون أن يقوموا بأى عمل مقابل هذا الراتب.

وأنا أسأل العباقرة الذين يناقشون القانون الآن، إذا كان عدد موظفى الحكومة وفقا لآخر التقديرات يبلغ 6.4 ملايين شخص، تدفع لهم الدولة رواتب 2.7 مليار جنيه بنسبة 26% من إجمالي الموازنة العامة، وإذا كان هناك اعتراف بأن ربع هذا الرقم فقط يمكن أن يدير الجهاز الإدارى للدولة بكفاءة، والباقى عمالة زائدة، فلماذا إذن تضيقون على هؤلاء العباقرة وتحرمونهم بفعل فاعل من حقهم في وظيفة حكومية تقديرا لتفوقهم ونبوغهم؟.

هل تنتظرون أن تتلقفهم وسائل الإعلام الغربية وهم جالسون في منازل ذويهم بلا عمل أو وظيفة، ليكونوا شاهدا على أن مصر تلفظ عقولها النابغة وتشردهم ولا تحتضنهم.

ما يحدث بالنسبة لأوائل الخريجين يدفع صفوة عقول مصر إلى الاغتراب عن الوطن والانفصال عنه والهروب بحثا عمن يقدر موهبتهم في الخارج، وإلا ما قيمة أن تجتهد وتتفوق علميا، ثم تجد نفسك عاطلا بلا عمل.

لدينا وقائع كثيرة عن متفوقين وموهوبين ونوابغ وعباقرة قرروا الانتحار لأن أحلامهم تبخرت بسبب إهمال الدولة لهم، ولأنهم وجدوا أنفسهم مشردين هائمين على وجوههم في الشوارع بسبب البطالة ولأنهم اكتشفوا أن النبوغ العلمى "وهم" كبير صدقوه وهم طلاب، وأنا شخصيا أعرف واحدا من هؤلاء أصيب بالجنون بعد أن كان عبقريا لأنه كان بلا واسطة، وظل يطرق كل الأبواب بحثا عن عمل، حتى وصل إلى مرحلة اليأس من البلد ومن الحياة ومن كل شيء.

أتعجب كثيرا من أطروحات المسئولين في وزارة التخطيط والمشاركين في إعداد القانون الذين يرددون هذه الأيام عبارة "لا يوجد نص في القوانين القديمة بتعيين أوائل الخريجين وحملة الدكتوراه"، وأرد عليهم: "نعم.. ولكن بين يديكم الآن القانون الجديد، فلماذا تصرون على مواصلة الخطأ؟، ولماذا لا تصححون أوضاع هؤلاء حتى لا يتحولوا من متفوقين علميا إلى متسولين وظيفيا، وحتى بافتراض جدلا أن الجهاز الإدارى للدولة لا يحتاجهم، ألا يستحق هؤلاء أن تكافئهم الدولة وتحتضنهم لتقضى على فيروس الفساد والمحسوبيات الذي استشرى في جسد الجهاز الحكومى؟".

وإذا كانت مصر تعيد هيكلة الجهاز الإدارى المترهل بقانون يصحح أوضاع موظفيها ويمنحهم مزيدا من الحقوق، ويصحح هيكل الأجور والترقيات والعلاوات، فأول استحقاقات هذه الهيكلة أن يصحح القانون هذا الخلل لينص على حق النابغين والمتفوقين علميا والحاصلين على الدكتوراه في التعيين، فلا خير في بلد يأكل نوابغه ويدمر موهبتهم ويمحو عقولهم ويدمر أحلامهم.
الجريدة الرسمية