الرقابة على دستورية القوانين..سابقة أم لاحقة
تموج مصر هذه الأيام بأفكار ورؤى عديدة ومختلف حول قضايا شتى.. من أهمها على الإطلاق، الجدل الدستورى والقانونى الذي ثار في الفترة الأخيرة.. حول الأسلوب الأمثل للرقابة على دستورية القوانين الانتخابية، وما إذا كان من المناسب الأخذ بنظام الرقابة السابقة، أم يظل نظام الرقابة اللاحقة هو النظام الوحيد المطبق..فالموضوع جدير بالبحث والتمحيص..لأنه يتعلق بكيفية حماية السلطة التشريعية من مخاطر الحل إذا ما شاب القوانين المنظمة لإجراءات انتخاباتها بطلان أو عوار دستورى..هذه الحصانة الدستورية ضد الحل، من أجل ضمان بقاء واستمرار البرلمان، الذي غاب عن أداء دوره في بنيان الدولة المصرية منذ ما يزيد على ثلاثة أعوام، وهى الفترة الأطول في تاريخ الحياة البرلمانية المصرية منذ قيام ثورة 23 يوليو 1952.
والواقع، أن هذا الجدل الدستورى الذي تمر به مصر الآن، عرفته من قبل فرنسا، التي مرت بظروف مشابهة، كانت تتلمس فيها الطريق لتحديد أنسب وسائل الرقابة على دستورية القوانين، فعند إعداد دستور السنة الثالثة لثورة 1795 تبنى الفقيه الفرنسى"سييز" اقتراحا بإنشاء هيئة محلفين دستورية تكون مهمتها رقابة أعمال السلطة التشريعية حتى تحول بينها وبين مخالفة الدستور، وتشكل هذه الهيئة من بين أعضاء السلطة التشريعية أنفسهم، ولكن لقي هذا الاقتراح معارضة شديدة ولم يكتب له أن يري النور، إذ لم يكن منطقيًا أن يعطي عدد محدود من أعضاء البرلمان نفسه حق الرقابة عليه بكامل أعضائه، ثم عند إعداد مشروع دستور السنة الثامنة للثورة في عهد الإمبراطور نابليون عادت الفكرة إلى الظهور في صورة أخرى في صورة إنشاء مجلس يسمي "المجلس المحافظ" تكون مهمته المحافظة على الدستور وذلك بالتحقق من دستورية القوانين والقرارات والمراسيم التي تقدرها السلطة التنفيذية.
ولكن لم يقدر لهذا المجلس أن ينجح في مهمته حتى فقد سبب وجوده وألغي عام 1807، وقد استقر القضاء الفرنسى في هذه الفترة لا يراقب دستورية القوانين، متأثرا باعتبارات فلسفية قامت على مفهوم معين لمبدأ الفصل بين السلطات من مقتضاه أن يحال بين كل سلطة والتدخل في أعمال السلطات الأخرى، وأن رقابة القضاء لدستورية القوانين التي يصدرها البرلمان هو اعتداء على هذا المبدأ وإهدار له، فضلا عن انتشار نظرية أطلقها الفقيه جان جاك روسو مفادها أن القانون هو مظهر إرادة الأمة، هذه الإرادة التي يعبر عنها البرلمان والتي لا يتصور أن يراقبها أحد أو أن يردها أحد إلى الصواب ذلك أن الصواب مفترض فيمن يعبرون عن إرادة الأمة، والفقيه الفرنسي الكبير Duguit يذهب إلى أن النتيجة المنطقية لفكرة النيابة تؤدي إلى أن نقول إن إرادة هؤلاء النواب باعتبارها إرادة الأمة نفسها، ولا يمكن أن تراقبها إرادة أخرى تعتبر أسمي منها بحكم مراقبتها لها، هذا الميراث القضائي والفقهي والفلسفي كان وراء رفض فكرة الرقابة القضائية على دستورية القوانين في فرنسا، وكان الدافع نحو إيجاد نوع من الرقابة الوقائية السابقة على صدور القانون، التي قد تتصور بعد مناقشة مشروعات القوانين في البرلمان وقبل إصداره، والتي تجسدت عند وضع دستور الجمهورية الرابعة عام 1946، ثم اكتملت عند وضع دستور الجمهورية الفرنسية الخامسة عام 1958 بإنشاء المجلس الدستوري.
الذي كان المقصود الأساسي من وجوده هو ضمان التطبيق السليم للنصوص الدستورية التي تضمن حسن سير السلطات العامة، خاصة ما تعلق منها بتوزيع الاختصاصات بين السلطة التشريعية والتنفيذية، فالنص الذي يعلن عدم دستوريته لا يجوز إصداره أو تطبيقه، وهذا المجلس الدستورى لا يتكون من قضاه إنما يتكون من أعضاء بحكم القانون ولمدي الحياة وهؤلاء هم كل رؤساء الجمهورية الفرنسية السابقون الموجودون على قيد الحياة، بالإضافة إلى أعضاء معينون، يختار رئيس الجمهورية منهم ثلاثة، وهكذا فإن الرقابة السابقة في فرنسا هي في حقيقتها رقابة وقائية سياسية، وليست رقابة قضائية حقيقية.
أما في مصر، فلم نعرف مطلقا هذه الأفكار الفلسفية التي اعتنقتها فرنسا حول مفهوم الفصل بين السلطات، واعتبار رقابة القضاء للدستورية تعديا على ذلك الفصل وافتئات عليه، فالقضاء المصرى منذ خمسينيات القرن الماضى، وقبل إنشاء أول محكمة مختصة برقابة الدستورية عام 1969، استقر في أحكام شهيرة على أن له ودون حاجة إلى نصوص خاصة في الدستور، الحق في الامتناع ـ وليس إلغاء ـ عن تطبيق نصوص القوانين التي تتعارض مع الدستور أو المبادئ الدستورية العليا لحماية الحقوق والحريات الأساسية للأفراد، وذلك بصرف النظر عما إذا كانت هناك نصوص صريحة في الدستور لمنح القضاء حق الرقابة الدستورية على القوانين أم لا، ثم تطور هذه الرقابة القضائية بإنشاء المحكمة العليا عام 1969 ومن بعدها المحكمة الدستورية العليا إلى رقابة الإلغاء إذا ثبت عدم دستورية القانون.
وفى الحقيقة، فإن الرقابة القضائية الصحيحة للدستورية هي الرقابة اللاحقة، التي تتناسب مع وضع المحكمة الدستورية العليا باعتبارها سلطة قضائية تختص بالفصل في مسائل الدستورية، أما من يريدون الرقابة السابقة، فقد يجدون ضالتهم في دور مجلس الدولة عند إعداد القوانين والتشريعات، إذ تعرض عليه وجوبا وفقا للدستور الحالى كافة مشروعات القوانين قبل إصدارها، وأرى أن دور مجلس الدولة في مراجعتها، سيشمل حتما مدى اتفاقها مع الدستور، وبذلك تتحقق الرقابة السابقة، دون إخلال بالرقابة اللاحقة، وهو النظام الأمثل.