أبو الوفا.. «القهوجي» الذي أكمل قصائد أمير الشعراء!
حتى مأساته مثل موهبته لم تحظ بما تستحق ويستحق..دراما عجيبة لم تتحول إلى مسلسل ولا إلى كتاب.. هي بين الحقيقة والخيال إلا أنها واقع عاشه وعاشه معه رموز ونجوم كبيرة..ولد في أسرة متوسطة الحال إلا أن القدر يختطف رب الأسرة ويصبح يتيم الأب..بعدها بسنوات جاءت مصيبته الثانية..يلعب الكرة في الشارع..إصابة بسيطة في قدمه لكنها تضطره إلى الذهاب إلى الوصفات الشعبية في ظل مستوى منخفض من الوعي في بدايات القرن الماضي وبعد وصفات شعبية تصاب قدمه بغرغرينة كان معها بترها حتميا..وأصبح معوقا بقضاء الله وقدره وهو في العاشرة من عمره!
يترك قريته في الدقهلية ويذهب هاربا من العجز بين أقرانه حزينا ممن تسببوا في عجزه إلى رأس البر تاركا الدراسة ليعمل صبيا في مقاهيها وبعد سنوات يتركها أيضا إلى القاهرة وقد اقترب من العشرين ليعمل أيضا في مقاهي القاهرة وفيها لا تختلف قلوب المصريين عن قلوبهم في رأس البر فيعطفون عليه ويوفرون له عملا في تلقى الحساب ليتلاءم مع عكازه وحالته وبعدها يشارك على مقهى في شارع عبد الخالق ثروت يحوله فيما بعد إلى ملتقى ثقافي إلا أنه وفي هذه الأثناء يطالع خبرا عن مسابقة شعرية بمناسبة تكريم أمير الشعراء أحمد شوقي بك..فيكتب فيها: " وخالد الشعر سوف يبقى مرايا تجتلى في صفائها الأشياء..يا أمير البيان إن بياني فيك أعشت عبرته الأضواء " ويفوز فيها باختيار الشاعرين الكبيرين حافظ إبراهيم وخليل مطران إلا أن شوقي يطرده رافضا حضوره بالجلباب والعكاز!
يصاب بأزمة نفسية شديدة إلا أن الفرصة تأتيه من السماء وتنشر له جريدة " المقتطف " قصيدة له وفجأه تنقلها خمس صحف أخرى مما دعا رئيس تحريرها الدكتور فؤاد صروف ليطلب منه الانضمام لأسرة تحريرها ثم مشرفا على مكتبتها ثم تشرع رابطة الأدب في تكريمه وهنا وتكفيرا عن ذنبه القديم يرسل أمير الشعراء قصيدة يمتدحه فيها ويقول فيها من بين ما قال: " في القيد ممتنع الخطا وخياله يطوي البلاد وينشر الآفاقا.. سباق غايات البيان جرى بلا ساق فكيف إذا استرد الساقا " !
إلا أنه وقبل رحيل أمير الشعراء تأتيه الفرصة التي قلبت حياته كلها عام 32 ويمنح له القدر فرصة السفر إلى فرنسا بل كان العام كله عام الحظ السعيد فبخلاف السفر إلى عاصمة النور تصدر له مجموعته الشهيرة " أنفاس محترقة " ويغني له محمد عبد الوهاب وتتسابق الصحف على النشر له ويعمل بالإذاعات الأهلية بل وتطلب منه وزارة المعارف وقتئذ أن يستكمل القصائد التي لم يكملها أمير الشعراء !
يعود من باريس بساق صناعية وزي أوربي كامل إلا أن إنتاجه الشعري لم يتوقف بل ازداد ثراء ويصدر له دوواين الشعر واحدا بعد الآخر ثم يعود إلى الظل ليأتيه أول تكريم له عام 67 حيث يمنحه الزعيم عبد الناصر وسام الفنون وبعدها بعشر سنوات يكرمه الرئيس السادات وتستجيب محافظة القاهرة لطلبه في شقة بها تليفون لمتطلبات الشيخوخة ويحصل على الشقة بالفعل إلا أنه يلبي نداء الحق قبل أن يتسلمها فعليا بيوم واحد!
إنه محمود أبو الوفا صاحب أغنية " عندما يأتي المساء " الشهيرة التي قال فيها " اسألوا الليل عن نجمي..متى نجمي يظهر " و" هل ترى يا ليل أحظى منك بالعطف على.. فأغني وحبيبي بين يدي ".. الشاعر الذي يتمه القدر وعذبه الجهل وطرده واعتذر له شوقي وشهره عبد الوهاب وكرمه ناصر وستره السادات وتجاهله النقاد ونسيه المؤلفون ونسيته الدراما !