"الجزيرة" من الانحياز للمشاهد إلى الانحياز للسلطة
عندما بدأت قناة "الجزيرة" بثها فى 1 نوفمبر 1996 كانت تكلفة الإنشاء هى 150 مليون دولار قدمها أمير قطر لمحطته الوليدة مستفيدًا من غلق القسم العربى لتليفزيون هيئة الإذاعة البريطانية، حيث وفر له التليفزيون المغلق الكفاءات المهنية المتميزة التى بدأ بها محطته الجديدة.
وخلال سنوات قليلة استحوذت "الجزيرة" على عقل المشاهد العربى، ووصل مشاهدو بعض برامجها إلى 100 مليون مشاهد، اليوم بعد أن أصبحت "الجزيرة" شبكة إعلامية عملاقة بالعربية والإنجليزية استثمر فيها أمير قطر مليارات من الدولارات، واشترت محطة "كرينت" الأمريكية مؤخرًا بـ 500 مليون دولار، هبط مشاهدو برامجها إلى مستوى برنامج ساخر يعرض على اليوتيوب.
فوفقًا لدراسة مسحية قامت بها شركة أمريكية لصالح "الجزيرة"، وتم تسريبها إلى موقع "لكم" المغربى هبط مشاهدو قناة "الجزيرة" يوميًّا من 43 مليون مشاهد إلى 6 مليون مشاهد يوميًّا، ووفقًا للدراسة فإن أغلب هؤلاء المشاهدين مركزون فى حصاد اليوم الإخبارى وبرنامج "الشريعة والحياة" الدينى، أى أن برامج "الجزيرة" السياسية فقدت مشاهديها بدرجة مذهلة.
فى 18 سبتمبر 2001 كنت ضيفًا على قناة "الجزيرة" فى أول برنامج عربى سياسى يناقش أحداث 11 سبتمر بعنوان "هل تستحق أمريكا ما جرى لها؟" فى برنامج "الاتجاه المعاكس الشهير"، شاهده وقتها معظم المشاهدين العرب كما قيل لى، وعند عودتى إلى أمريكا عرفت أن شبكة "أى بى سى" الأمريكية الشهيرة قد أذاعت مقتطفات مطولة من البرنامج مترجمة نقلًا عن "الجزيرة"، فى تلك الفترة وصف الرئيس السابق حسنى مبارك قناة "الجزيرة" بعلبة كبريت يطلع منها كله ده، حيث كانت مكتسحة بالفعل للمنطقة العربية، والسؤال: لماذا تدهور مشاهدو قناة "الجزيرة" إلى هذا المستوى؟!
أول وأهم الأسباب فى رأيى هو التحول الكبير فى خط تحرير "الجزيرة" من الانحياز للمشاهد إلى الانحياز للسلطة، فبعد ما يسمى الربيع العربى بات انحياز "الجزيرة" للحكومات الإسلامية مسألة واضحة حتى أصبحت وكأنها المنبر الرسمى لجماعة الإخوان المسلمين وحلفائها.
وقد بدأ خط تحول "الجزيرة" منذ تولى "وضاح خنفر" عام 2003، حيث كان "خنفر" عضوًا بجماعة الإخوان المسلمين بالأردن، كما نشط بحركة حماس، وكان أحد أبرز قيادييها فى مكتب الحركة بالسودان، فتحول تدريجيًّا خط "الجزيرة" التحريرى لدعم التيار الإسلامى، وخاصة حماس والإخوان، وأيضا تم استبدال تدرييجى للعاملين فيها.
وعندما تتجول فى مكاتب "الجزيرة" حاليا تحس أنك تتجول فى قطاع غزة، فترك "الجزيرة" العديد من كوادرها المهمة، مثل حافظ الميرازى، وسامى حداد، ويسرى فودة، وغسان بن جدو، وحسين عبد الغنى، وجومانة نمور...إلخ.
ويمكن اعتبار الـ 6 مليون مشاهد يوميًّا حاليا هم جماهير الإسلام السياسى فى المنطقة، وبهذا تحولت "الجزيرة" من احتكار المشاهد إلى احتقار عقله، دفاعًا عن السلطة الإسلامية، هل كانت "الجزيرة" تخطط لهذا التحول على مدى سنوات طويلة؟ ربما، هل جاء التحول نتيجة رئاسة وضاح خنفر؟ ربما، هل هو باتفاق مرتب مع أمريكا؟ ربما.. النتيجة واحدة؛ أصبحت "الجزيرة" منفرة للنخب وللمشاهد المسلم الوسطى المعتدل، وطبعًا للأقليات غير المسلمة.
ومع تسارع الانحياز تراجعت المهنية بشكل كبير جدًّا من كافة الزوايا والنواحى، وجاءت الأزمة الليبية ثم السورية، فتحولت "الجزيرة" طرفًا رئيسيًّا فى المعارك، وأدى ذلك بالطبع إلى مسألة أخطر من تراجع المهنية، وهى تآكل المصداقية، وعند هذه النقطة تبدأ وسيلة الإعلام فى الترنح، فلا قيمة لوسيلة إعلام تفقد مصداقيتها، وخاصة عند المشاهد الواعى المدرك، ولا ننسى أن "الجزيرة" ذاتها فى تألقها ساهمت فى رفع هذا الوعى ليكون خصمًا لها بعد ذلك.
يضاف إلى ذلك تزايد حدة المنافسة جدًّا فى سوق الإعلام السياسى والإخبارى، فبعد 11 سبتمبر أدرك العالم كله أن منطقة الشرق الأوسط ستكون محركًا للأحداث العالمية لعقود طويلة، وربما تنطلق منها الحرب العالمية الثالثة، فهذه المنطقة تمتلئ بالكراهية والحروب الأهلية والتعصب والصراعات الدينية، وتعوم على مخزون هائل من النفط، وبها أقدم وأطول الصراعات الدولية بين العرب وإسرائيل، ومنها انطلق الإرهاب الدولى، علاوة على الإحباط وضياع الأمل والديكتاتورية والانغلاق على الذات، فسعت الكثير من الدول لمخاطبة هذه الكتلة البشرية الهائجة فى محاولة للتأثير عليها وترويضها.
وافتتحت أمريكا مزاد سلسلة الفضائيات الأجنبية الناطقة بالعربية بتدشين قناة "الحرة" عام 2004، ثم جاءت فرنسا بقناة "فرانس 24 " عام 2006، ثم "روسيا اليوم" عام 2007، ثم الـ"بى بى سى" عام 2008، ثم الـ"يورونيوز" عام 2008، ثم قناة الصين العربية "سى سى تى" فى عام 2009، وحتى تركيا الطامعة فى الشرق العربى فتحت قناتها "تى أر تى" عام 2010، بالإضافة إلى العديد من وسائل الإعلام الصغيرة الناطقة بالعربية جاءت من العديد من دول العالم الأخرى.
وبالتوازى تسارعت المنافسة العربية مع قناة "الجزيرة"، فكانت قناة "العربية" عام 2003، ثم قناة "العالم" الإيرانية، دعمًا للهلال الشيعى العربى عام 2003، ثم توالت بعد ذلك الفضائيات السياسية الدولية والمحلية، حتى بات من الصعب إحصاؤها، وكان تأثير القنوات القُطْرِية هامًّا فى إضعاف قناة "الجزيرة"، وخاصة فى دول ما يسمى بالربيع العربى، فبرزت "أون تى فى" فى مصر، و"ليبيا الحرة" فى ليبيا، و"الوطنية" و"هانبعل" فى تونس، و"الميادين" فى سوريا، و"النهار" فى الجزائر، لمحاصرة مد الربيع العربى إلى الجزائر.
سبب آخر أدى إلى هذا التراجع الكبير، وهو ترهل الإدارة، والثقة الزائدة فى الذات، فمع التوسع الكبير فى الشبكة، وحجم الاستثمارات القطرى الضخم بدون خطة للربح أو المساءلة، ترهلت الإدارة وارتفعت نبرة أن "الجزيرة" هى التى تصنع النجوم، فحلت كفاءات ضعيفة ومؤدلجة محل الكفاءات المهنية القديمة، ولم تصنع منهم "الجزيرة" نجومًا كما تصورت، بل هم من هبطوا بمستوى "الجزيرة"، وكان من نتائج هذه السياسة التحريرية والانحياز السافر للفاشية الدينية الجديدة تحول الإعجاب الكبير عند المشاهد العربى العادى تجاه "الجزيرة" إلى كراهية كبيرة تجسدت فى حرق الثوار لمقر قناة "الجزيرة" فى مصر، ومطاردة مراسليها باللعنات فى معظم دول المنطقة.
فى عام 1999 كتبت مقالة طويلة على نصف صفحة فى جريدة "القدس العربى" اللندنية بعنوان "الجزيرة تعرى الإعلام العربى الرسمى"، وبعد كل هذه السنين الطويلة أعود للكتابة مرة أخرى عن "الجزيرة"، ولكن هذه المرة عن تعرى "الجزيرة" ذاتها.. وسبحان من له الدوام.