اغتيال ممنهج للقاضي زكريا عبد العزيز
في العام 2005 كانت كلماته "إن في مصر قضاة لا يخشون إلا الله"، سندًا ودعمًا مباشرين لكل من فقدوا الثقة في احتمالات عيش وحرية وعدالة وكرامة داخل هذا الوطن، قبل أن تتأكد كمطالب وتترجم كشعارات لأبرز ثورات مصر المعاصرة.
لم يكن يدرك القاضي الجليل زكريا عبد العزيز، وهو ليس برجل السياسة أو المشتغل بها، أو الخبير الإستراتيجي الذي يغرقنا كل ساعة في تحليلاته واستنتاجاته، أن حساباته الوطنية لن تضاف لرصيده في زمن الفوضى، ليقف متهمًا باقتحام مبنى أمن الدولة في الخامس من مارس عام 2011 بناءً على تحريات أحد ضباط الجهاز، ويحال بعد 4 سنوات من الواقعة للصلاحية، رغم أن أدلة وشهادات شهود تؤكد عدم اقتحام مقر المبنى، وصون مستنداته بفضل هذا القاضي الجليل وشباب مصر الذي تصدى معه للمخربين، مقابل حرق مقار الجهاز الرهيب بدمنهور والإسكندرية وأكتوبر والمنوفية بطرق تثير تساؤلات أكبر حول الأحداث كافة.
القاضي الجليل الذي أتى لرفاقه بميزانية مستقلة عام 2006، وحضرت مواقف الجمعية العمومية لناديهم وشهاداتهم التي فضحت جرائم التزوير الممنهج قبل دسترته بتعديلات مشبوهة لدستور 1971 في 26 مارس 2007، لم ينج أيضا من ألاعيب تيار التكفير والعنف الذي أشاع اتهامات للقضاء المصري بالفساد والإفساد، فتم الاتجار باسمه عام 2012 على ألسنة المشتغلين بالسياسة ضمن مجموعة "قضاة من أجل مصر" البريء من شبهة وتهمة الانضمام لها، التي أعلنت نتائج مزعومة للانتخابات الرئاسية من طرفها ودون موعدها، لتمنح الجماعة مبررًا أخلاقيًا بتوعد شعب مصر بحرق البلاد حال سقوط مرشحها.
وكما فعلت الثورة فعلها بكثير من المصريين، فمنحتهم الأمل في التغيير، ثم أتت بالفاعل منصوبًا أو مجرورًا، فإن ازدواجية الرؤية للحقائق تمنع دائما الوصول إلى نتائج واضحة، فاستقلال القضاء ننادي به بينما نتهم القضاة على المشاع بالفساد، وإصلاح الجهاز الأمني مرهون بالصبر على جرائم بعض رجاله المبررة بمواجهة الإرهاب، والصحافة نستنجد بحملة الأقلام فيها دفاعًا عن حقوقنا نهارًا، بينما نلقبهم بسحرة فرعون في المساء، وثورتان نتباهى بإنجازهما بينما نلعن نتائجهما وتداعياتهما على حياتنا.
في هذا المناخ "الاستغبائي"، رحل مبارك وبقيت منظومته يفخر بعضنا بقيمها، وعُزِل مرسي وظل تعاطف البعض مع إرهاب جماعته الصريح والمعلن، وحضر السيسي رئيسًا بعد دستور يعترف بثورتين، بينما نترك الساحة لأبناء مبارك كما سلمنا عقولنا للإخوان من قبل، وكأن لا شيء يراد له "التغيير الحقيقي" في بلادنا، رغم اعتباره "جذريًا" بتعبيرات نخب فاسدة تصدرت المراحل الانتقالية المزعومة، التي لم يتلون خلالها شرفاء كأمثال القاضي زكريا عبد العزيز؛ بحثًا عن مكاسب أو جاه وسلطان.
إن إجراءات بحق رموز وطنية وقضائية، تتزايد معها خشية الجميع أن تكون جزءًا من السياق العام لما لا علاقة له بصحيح القانون، فمن غير المقبول إهانة قاضٍ بإجراءات لا مبرر لها، أو حبس مواطن احتياطيًا وإحالته للمحاكم رغم تأكيدات أوراق التحقيق الأولي على براءته، مثلًا.
أما محاولات تشويه سيرة وتاريخ قضاة بقيمة المستشار زكريا عبد العزيز، فتمثل العنوان الرئيسي لـ "فساد" جديد لمرحلة "انتقامية"، أو تكرار بشع لمراحل تاريخية تقليدية لـ "انتقام قوى الفساد والاستبداد"، تمثل المسمار الأول في نعش نظام يصمت على استمرار حوارييه في صياغة شهادة وفاته المبكرة، بجرائم الاغتيال الممنهج لشرفاء سينتصرون آجلًا أو عاجلًا بالتأكيد.