يوسف زيدان.. ليس آخر الرجال المضطهدين
اختار لنفسه طريقا صعبا منذ البدايات، وأبحر فى دهاليز التاريخ المصرى يبحث عن صيد ثمين، وكلما وجد صيدا أغراه البحث أن يبحر أكثر، ولم يعبأ بما يتعرض له من هجمات قادها ويقودها ضده كل من استراحوا تحت عباءة المسلمات التاريخية، غير قانعين بعقل يبحث عن الحقيقة المجردة من أجل أجيال تحتاج إلى من يعيد صياغة عقلها، وتاريخها، وجذورها، وأصولها بشكل يدعو إلى تمرد العقل المستكين تحت وطأة الاستسلام اللذيذ، عبر تغريدة يتنهد صاحبها عقب إطلاقها مستريحا لإطلاق صاروخ أرض جو يزلزل عالم الفيس بوك، أو الشبكة العنكبوتية!!
لم يكن الدكتور يوسف زيدان، وحده من اختار هذا الطريق، فهم رغم قلتهم عاشوا أكثر من سنوات عمرهم المحسوب بشريا بعدد سنين، عمّروا قرونا من الزمان لأنهم حينما اختاروا طريقهم إنما اختاروا السير فوق الأشواك من أجل الحقيقة المجردة، وربما كان هذا السبب هو ما جعل زيدان ينسحب فى وقت تكالب الجميع من أجل الظهور فى الصورة، بعيدا عن قيمة تلك الصورة، أو روحها، أو امتدادها التاريخى، وأصبحت استوديوهات الهواء تصب فى آذاننا من ركام الكلام ما يدعو المرء إلى التبول اللاإرادى.
لم يقل إلا كلمات قليلة كانت موحية، راسخة، معبرة وقادرة على العبور وسط أمواج متلاطمة من العبث الفكرى المنتشر فى عصر ابتنى قصوره من الكلام المفرغ، والفارغ، وعندما شعر أن الكتابة ممارسة بغيضة، لا تجد عقولا تستوعبها، تذاكرها، تفهمها، وترفضها، أو تلتهمها لتغيير البوصلة الوطنية .. قرر ساعتها الانسحاب إلى زاوية التاريخ المحببة إليه، ربما ليفاجأ الجميع بحجر جديد يلقيه فى بحيرة اليم الراكد منذ سنوات طويلة.
الكتابة عند يوسف زيدان ليست عادة سرية، ولا انزواءً فى طريق مظلم مع فتاة بضة فضلت ممارسة الحب بنقاب يخفى ملامح الوجه، ويسلم كل ما تبقى، ليست سيجارة يتعاطاها المرء بعد الطعام، وليست كأس نبيت يتجرعه الغافل عقب لقمة لا تستساغ إلا به، فالكتابة عند زيدان ومضة يطقلها لتكشف جزءا من الحقيقة، فلاش كاميرا يسكن الأبصار والبصائر، يمتد مفعوله إلى ما بعد السكون، ليصبح فى يوم من الأيام حركة فى طريق التمرد الصحى الذى ابتنى حضارات، إنما قامت لأن مثله خرجوا على أقوامهم، وساروا عكس القطيع ومضة تعيش أكثر من لحظات حياتها القصيرة، لتكون موحية لكل السائرين فى طريق الحياة الموحش.
كان طبيعيا أن يتلقى الضربات تلو الضربات، يصارعهم بقلم وورقة، وهم يصارعونه بعمة وسيف وخنجر، ودون أن نناقش ما يطرحه اخترنا أقصر الطرق للتنفير منه، والتخويف بما يكتب، ومارسنا ضده إرهاب الاستسلام العميق، الذى أصبح جزءا لا يتجزأ من شخصيتنا الفكرية، وعشنا مع برنامج ساخر يلقى على مسامعنا نكتة تضحكنا، رغم فرط الدهشة المبكية.
من عجائب الأمور أن يصبح يوسف زيدان متهما بازدراء الأديان، وهو الباحث الحقيقى عن قيمة مضافة للدين، قيمة لا تهضم بيزنس الدين، وتقاومه، وترفضه، وتجعل الاستسلام له خيانة للدين والتدين، وقد يكون غريبا ونحن نرزح تحت احتلال جدى، احتلال السلف للمستقبل الواعد، احتلال الموتى لحياة الأحياء اليوم والمولودين غدا وبعد غد وكل غد مقبل، ورغم أننا نخوض حربا ضروسا ضد المتاجرين بالدين إلا أننا نقف بلا مبرر فى صف التاجر، والرابح، والمستغل ضد يوسف زيدان، وبدا لنا أن فوز فريق سموحة على النادى الأهلى إنما هو انتفاضة ضد قوى الشر فى الأهلى تستحق منا التصفيق والتعليق وأحيانا الدهشة.
رأس يوسف زيدان ليست هى المطلوبة وحدها، وإنما مطلوب كل رأس تفكر عكس السياق المنحرف لوقائع تاريخية غلفت الدين بمساحة من الخزعبلات والترهات، وكست العقل البشرى فى منطقتنا بطبقة صلبة من الخداع المتمسح بالدين، الذى هو منها براء، ولن يكون غريبا إنشاء مباحث تفتيش، تفتش عقول الناس وبيوتهم ومكتباتهم عن كل قيمة تبحث فى قراءة جديدة للدين، أى دين، على غرار مباحث أمن الدعوة، ومباحث الآداب التى تحارب قلة الآداب الجسدية رغم ما نحفل به من قلة آداب فى التفكير، وقلة آداب تسكن العقول، وقلة آداب ترفض نفض الماضى الملىء بكل حانات التغييب.
الأغرب أن يخوض يوسف زيدان معركته عازفا، منفردا ضد الجمع المدجج، بكتب صفراء تحمل فى باطنها ملامح عصور انتهى اجتهادها، عند حافة القدرات البشرية فى عصور كان مجرد ظهور المذياع كفيلا بالقول إن الحديد تكلم، وها هنا نهاية الدنيا، لم تستنفر القوى الفكرية قواها ضد هجمة شرسة ستطال العقل فى تمرده ليعود ساكنا، مستكينا، رافضا الانحراف عن الطريق المنحرف.
واستسلمنا لحرب فرضها علينا العائدون من سلة الزمان الغابر، فرضوا توقيتها، وأدواتها ونتائجها، ودون أن نقرأ ما كتب، اخترنا المواساة طريقا للوقوف معه، ومارسنا النضال السرى خوفا من مقصلة لن تطاله وحده، وإنما سيأتى الدور حسب التوقيت المحلى لعصر دفن معه كل الحقائق التى كشفها غيرنا، فساروا فى طريق النور، وسرنا نحن نتخبط، فضلنا عصر الجن والسحر على نبوءة الغد المحمل بنور الصبح.