رئيس التحرير
عصام كامل

حياة «أم محمد» تجسد المأساة الإنسانية.. مات زوجها ليترك في عنقها 4 أطفال.. تبيع المناديل على سلم مترو «الجامعة».. الموت يخطف نجلها الأكبر بعد انتشال الأسرة من بؤسها.. وأملها في الح


أهفو إلى بصيص أمل، يقتلع جذوري التي شاخت من كثرة الجلوس على سلم محطة مترو جامعة القاهرة، ثمانون عاما، ونصف عقد، وما زلت أبحث عن مسببات البهجة، أتوسل كل صباح، ومساء، إلى الزمان ليهديني لحظة فرح، تضحك قلبي المكلوم من شدة الفقر والحرمان.

 ليست «أم محمد»، بائعة المناديل، على سلم محطة مترو جامعة القاهرة، كغيرها من اللاتي فقدن عائلهن، فهي طفلة لم تعرف معني الكلمة، ولعل وصفها لهذه المرحلة من حياتها هو أبلغ رد «الشقاء بيتوه، واللي زي ما يعرفش يعني أيه دلع، علموني من صغري لو شكيت، أو تعبت من المرمطة قطار الجوع حيدهسني تحت عجلاته، وطول ما فيَ نفس، يبقي في شقا، اللي زينا ما يرتاحوش غير لما الموت يدق على بابهم».

جدائل البوص 
تفتحت عينيها على جدائل منسوجة من البوص، عشة تأوي أسرتها، سنوات قليلة اشتدت فيها الأقدام، لتحملها إلى نفس مكانها الحالي، معالم غير المعالم، ووجوه غير الوجوه، إلا أنه يبقى في النهاية شارع، تعرض فيه سلعتها «كنت زمان ببيع ورد، وسواعي ورق يناصيب، وغيره كتير، وأديني دلوقتي ببيع مناديل، المهم أن ربنا يكرم وأرجع في آخر اليوم، وفي يدي رغيف، آه كنت بأكل نصه، بسد جوعي هعمل أيه، المهم يكون معايا ولو حتى نص الرغيف».

 فارس الأحلام 
قاربت «أم محمد»، من إكمال العشرين عامًا، لم يكن يشغلها كثيرًا قدوم فارس الأحلام، الذي يحملها على حصانه الأبيض «اللي زينا مش مسموح ليهم حتى يحلموا، الجوع ماكانش مخليني أحلم غير باللقمة»، إلا أن القدر كان أحن عليها هذه المرة فقد ساق لها زوجًا، تعرفه، ويعرفها «كان فقري زي حالاتي». 

مرت الأيام، ومن الله عليهم بأربعة من الأبناء، كانت فرحة النظر إلى وجوههم تنسيها هي، وزوجها كل شقاء، وفجأة مرض الزوج، «واللي زينا لما يمرضوا، ربنا يتولاهم برحمته، دا إحنا بالكاد بنجيب تمن الرغيف، يبقي العلاج جلع، ما نعرفش طريقه»، مات الزوج، لتجد «أم محمد»، في عنقها 4 أبناء، لم يتجاوز عمر الأكبر منهم الـ13 عامًا، ولم يترك لها الزوج ميراثًا سوى عشة، تفضح أكثر ما تستر، ومائة وأربعين جنيهًا، معاشًا تحصل عليه من وزارة التضامن الاجتماعي. 

تاهت المعالم 
مضت سنين العمر بها، ليشب «محمد»، ابنها الأكبر، والذي به تكنى، وراح وليدها يكدح ليعوضها أعواما تاهت فيها معالمها، ولم تكن تذكر فيها سوى شيء واحد «كنت كل ما تكل عزيمتي وأقول خلاص مش قادرة على الشقا، أفتكر إن العشة فيها 4 أرواح، فأرجع أقوى من الأول».. شب ابنها الأكبر، وخاض بقلبه قبل قدميه، رحلة عناء استطاع خلالها أن يؤجر غرفة ببدروم إحدى البنايات القديمة، في إحدى المناطق العشوائية، التي لا تبتعد كثيرا عن العشة، إلا أن لها 4 جدران تستر والدته وأشقاءه الثلاثة.

 تجفيف الدموع 
ابتسمت لها الأيام، ولأول مرة تترك مرافقة الشارع، لتجلس في البيت، بعد أن أصبح «محمد»، قادرًا على جلب ما تحتاجه الأسرة من نفقات، ومضت الأيام تنشر بهجتها على الأسرة أكثر، وأكثر، فقد استأجر الإبن غرفة أخرى في بدروم أحدي البنايات القديمة، المجاورة للبدروم الذي تقبع فيه العائلة، ليبدأ حياته الأسرية دون أن يتخلي عن مسئولية الأسرة، فشقيقه لم يجاوز بعد الـ15من عمره، ومضت الأيام ورزقه الله بـ4 من الأبناء، كانوا كفيلين بتجفيف دموع، ظلت عيون جدتهم تذرفها على مدى سنوات من كثرة للشقاء.

رحلة لم تنتهي 
كان قلبها يحدثها أن رحلتها لم تنتهي بعد، فما زالت فصول المعاناة التي غٌطت فيها منذ الصغر باقية، وفجأة وبدون مقدمات مرض ربان السفينة، وسرعان ما تختطف الموت «محمد»، لتصبح الأسرة التي تضاعف عددها بدون عائل من جديد، كفكفت السيدة من دموعها، لتجلب إلى حضنها ثلاثة أبناء وأربعة أحفاد، رفضت أمهم أن تبقي، وآثرت الرحيل، فلم تعد تحتمل الفقر.

 عادت «أم محمد»، إلى الشارع، بعد 9 سنوات من مفارقته، لتجلس في مكانها المعهود بجوار سلم محطة مترو جامعة القاهرة، تضع أمامها بضع أكياس من المناديل، تعرضهم على المارة الذين يرأفون بحالها ويبتاعون منها، فقد حاول ابنها الأصغر أن يسير على خطى شقيقه الراحل ويتحمل مسئولية الأسرة، إلا أنه ورغم قرب بلوغه العشرين من العمر، فشل في الحصول على فرصة عمل، ولا تسفر محاولاته الدائبة، إلا على حصوله على حفنة من الجنيهات لا تسمن ولا تغني من جوع، وأصبحت شقيقته ممن فاتهن قطار الزواج، لا لعيب فيهن، سوى فقر، ضرب حولهن جدارًا منع أعين الشباب من النظر إليهن.

مش طالبة حاجة 
تتغير الوجوه، وتتبدل المعالم لتظل «أم محمد»، جالسة في مكانها على سلم مترو محطة جامعة القاهرة، لا تطلب من الدنيا سوى شيء واحد، أن يرأف بها المسئولون ويخصصوا لها مسكنًا تأوي إليه هي وأسرتها المكونة من 7 أفراد «أنا مش طالبة حاجة، غير أوضين يستروا بناتي، ويطمنوا قلبي عليهم بعد ما أموت».
الجريدة الرسمية