رئيس التحرير
عصام كامل

عندما "هرّبت" الأبنودي من رجال الأمن !


كانت من بين مهامنا كمساعد لرئيس تحرير جريدة الأسبوع قبل تركها نهائيا منذ عشر سنوات كاملة.. متابعة وجمع مقالات كتاب الجريدة ومراجعتها قبل إرسالها إلى وحدة الجمع ومنها إلى التنفيذ..كان كتاب الجريدة وقتئذ من كبار كتاب مصر وشخصياتها العامة..كان السيد حسين الشافعي نائب رئيس الجمهورية الأسبق والدكتور يحيى الجمل والروائي الكبير الراحل خيري شلبي والراحل محمد مستجاب..كان الغيطاني والقعيد وكثيرون كان أبرزهم وأقربهم للقراء الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي والذي اشتهر بإصراره أو تعوده على كتابة مقاله بالقلم الرصاص!


كانت الأسبوع وقتئذ تمارس فعلا مركبا..هي مؤسسة صحفية وفقا لترخيصها لكنها كانت لا تترك مناسبة وطنية إلا وأحيتها..فضلا عن إفطارها السنوي في رمضان بالإضافة إلى الاحتفال السنوي بتأسيسها وكان من أهم نجوم هذه الاحتفالات وتلك المناسبات الأبنودي أيضا !

في كل هذه المناسبات كنا نلتقيه ونستمع إليه وإلى نوادره وتلقائيته في الحكي كواحد من أفضل الحكائين العرب على الإطلاق..
وفجأة نتلقى دعوة لأحد المؤتمرات بالأقصر وفي بهو فندق إيزيس الشهير وجدت هناك الأستاذ الأبنودي وسط مجموعة من المواطنين كان أحدهم يبدو على معرفة به..وقبل أن أصافحه وجدته مبتسما يقترب مني وكأنه يبحث عن منقذ من ورطة كبيرة ويقول: "تعالَ..أنت فين يا راجل من الصبح" ثم أمسك بيدي وانصرف بي بعيدا وهو يشرح لي الموقف وكيف أنه في هذا المكان لا يعرف كيف يتحرك من الرجل الذي كان يتحدث إليه وأبلغني أنه شقيق "الشاعر...... " وأنه هو أيضا انتهى من ديوان شعري ويصر أن يقرأه الأبنودي ويقول رأيه فيه ثم قال مثلا شعبيا مدهشا ومضحكا يختصر فيه كيف ترك الرجل أكثر من مرة إلا أنه يجده أمامه في كل مكان يذهب إليه وكيف كلما ألقى الديوان في مكان يجد صاحبه يأتي من خلفه ويقول له: "أستاذ عبد الرحمن.. الديوان أهو"..فقال: "في ناس زي الشباشب البلاستيك..تضربها في الحيط ترجعلك تاني"!

ومرت الأيام وكنا انتهينا من لقاء بالأستاذ عبد الرحمن رشاد رئيس الإذاعة السابق وكان وقتها رئيسا لشبكة البرنامج العام..كان مكتبه في الدور الرابع في حين أستديوهات الإذاعة في الدور الثاني يحرسها رجال أمن برتب مختلفة..كان الدور الرابع لا يستلزم استخدام المصعد وعلى سلم الإذاعة وجدت الأبنودي أيضا مرهقا منهمكا في حديث صاخب مع رجلي أمن أمام باب الأستديوهات مباشرة وما أن رآني إلا وكأنه أيضا وجد مخرجا للاستئذان وكأني تخصصت في "تهريبه" من محبيه ووجدته يصرخ ويقول "يا عم أنت فين يا رااجل..اتأخرت ليه" ومن جديد يمسك بيدي إلى الانصراف ليقول لي: "البرنامج خد ساعة وأنا ليا ساعتين في برنامج تاني مع العساكر"!!

الأبنودي ورغم جرأته يخجل من الاستئذان من محبيه..إلا أنه لا يخجل من مواقفه السياسية مهما كلفته..شاهدته صغيرا في مؤتمرات حزب التجمع في الثمانينيات يبدع بقصيدته الشهيرة "البيات الشتوي" والتي هاجم فيها السادات ونظامه وكان كتبها وقت حكم السادات وبعدها بسنوات يعلن رفضه وبجرأة، الاحتلال العراقي للكويت رغم الهجوم الكاسح من أصدقائه ومن حزب التجمع نفسه وقياداته عليه وفي السنوات الأخيرة من حكم مبارك يقف الأبنودي شامخا ليقيم تجارب السنين ويكتب لعبد الناصر وكأنه يؤكد انحيازه واختياراته لأكثر زعماء مصر نزاهة وانحيازا للفقراء وللكرامة الوطنية..أما في السنوات الأربع الأخيرة يقف الأبنودي بكبرياء لا مثيل له منحازا إلى جيشه صامدا أمام تطاول وقلة أدب من مستنشطين ومدعين ومتمولين وأرزقية في العمل السياسي لم يجدوا فرص مواجهته إلا بأحلام التخلص منه ورحيله وكانت الشائعات الأخيرة.. إلا أنه يقبل التحدي ويصفع هؤلاء كل حين بقصائد تدعم جيشنا العظيم وأخرى تستنهض همم المصريين.. ولم يتوقف الأمر عند شخصه إنما وجدنا ابنتيه على درجة من النضج تجعله فخورا بهما وبوعيهما خلافا لبنات شعراء آخرين!

حفظ الله الأبنودي..وأطال الله عمره..وأدام الله تدفقه وإبداعه..وأبقى الله حروفه وكلماته تنطلق كالرصاص تقذف أهدافها بالحق ولتجرف الباطل إلى حيث يستحق الباطل !!
الجريدة الرسمية