استعادة الطيار المختل.. المخابرات تعيد «عباس حلمي» في صندوق خشبي من الأرجنتين..عملية الاختطاف التي قادها رئيس الجهاز كانت لطمة على وجه إسرائيل
في منتصف القرن الماضي، نجح الاتحاد السوفييتي في التحليق عاليًا في سماء سلاح الجو بعد تقديمه طائرات متفوقة على نظيرتها الأمريكية، ولا يخفى على أحد أن سر التفوق السوفييتي حققته طائرة «ميج 21»، التي امتلكتها الجيوش العربية في سوريا ومصر والعراق، ولم تنجح إسرائيل في الوصول لها.
الطائرة المقاتلة «Mig21»، حقق بها السوفييت أرقامًا قياسية لم تكن مألوفة من قبل، واعترفت بها المنظمة العالمية للطيران، إذ طار الكولونيل جورجي مرسولوف بطائرة من طراز E66، وحقق بها معجزة عالمية للسرعة في أكتوبر 1959، مقدارها 2388 كيلومترًا في الساعة، طوال مسافة من 15 إلى 25 كيلومترًا، وكانت الطائرة مزودة بمحرك توربيني نفاث من نوع «tdr mkr 37f».
في 28 أبريل عام 1961 تمكن طيار سوفييتي آخر من الوصول بها إلى ارتفاع خارق، حطم به الأرقام العالمية، وبلغ 34 ألفًا و714 كيلومترًا، وهو رقم تعجيزي لم يتحطم قط لسنوات طويلة، عندما زُوّدت الطائرة بمحرك صاروخي إضافي مساعد.
وخلال عرض جوي بمطار «دوموديدوفو»، قامت الطائرة ببيان عملي للإقلاع، وتفجرت مفاجأة صاعقة للعقول العسكرية في الغرب، عندما أقلعت الطائرة بعد مسافة جري على الممر 150 مترًا فقط، في حين أن الطائرتين الأمريكيتين «سكاي هوك» و«فانتوم» تحتاجان مسافتي «1445 و1525 مترًا للإقلاع»، أما المقاتلة الفرنسية «ميراج 3» التي كانت تتباهى إسرائيل بامتلاكها، فكانت تحتاج لمسافة 1600 متر للإقلاع.
هذه الإمكانيات جعلت ديفيد بن جوريون - رئيس الوزراء الإسرائيلي في ستينيات القرن الماضي - يصر على ضرورة امتلاك هذه الطائرة الأسطورة «ميج 21»، ونقلت عنه الصحف الإسرائيلية قوله لرئيس الموساد: «تلك الخرافة الملعونة.. نريدها، نريدها سليمة في أزهى ثيابها وحُلّيها، لنزيل بها حاجز الخوف القابع بصدور طيارينا، ونتحسس ملكاتها الأسطورية التي يخيفنا العرب بها، فبامتلاكها سنضمن الغلبة لإسرائيل، ونُؤمّن بذلك مستقبل دولتنا، وأولادنا، إلى الأبد».
كان «الموساد» يحاول بشتى الطرق أن يلبي رغبة الولايات المتحدة وجهاز مخابراتها للوصول إلى الطائرة المنشودة، وفي البداية اقترح أعضاء الموساد أن يتم زرع طيار إسرائيلي وسط الطيارين العرب، إلا أن الفكرة كانت مستحيلة، وظهرت فكرة أخرى هي تجنيد أحد الطيارين العرب لصالح إسرائيل، لكن هذا صعب أيضًا لأن الدول العربية وفرت للعاملين بمجال الطيران الحربي معيشة مستقرة تغنيهم عن أي شيء.
أمام ذلك لم يتبق سوى ضمان هروب أحد الطيارين العرب بالطائرة «ميج 21»، والوصول بها إلى مطار اللد في إسرائيل سالمًا، واستمرت المحاولات والإغراءات منذ بداية الستينيات حتى عام 1964، وحدث ما لم يكن متوقعًا عندما هرب الطيار المصري عباس محمود حلمي، المعروف بـ «الطيار المختل» بواسطة طائرة تدريب سوفييتية قديمة من طراز «ياك 15» ذات مقعدين.
الكاتب فريد الفالوجي، الذي أرخ العملية 7 من ملف المخابرات المصرية، قال: «رغم خيبة الأمل التي أصابت الإسرائيليين بسبب نوع الطائرة، إلا أن الطيار المصري استقبل بحفاوة بالغة في إسرائيل، واستغل حادث هروبه أسوأ استغلال في التشهير بالنظام المصري، وادعوا أن عباس حلمي هرب احتجاجًا على تدخل مصر في اليمن، وضرب القوات الملكية هناك بالغازات السامة، وبالأسلحة غير المشروعة دوليًا، ما أثر على أعصابه وعلى إيمانه بالقومية العربية وبالعروبة».
أُخضِع عباس حلمي لاستجواب دقيق، وسئل مئات الأسئلة، ولم يكن بمقدوره ادعاء الجهل بأشياء كثيرة تتعلق بأدق التفاصيل عن الميج 21، فقد كان أحد طياريها، وأدرك بعد فوات الأوان، أنه ارتكب جريمة الخيانة العظمى في حق وطنه، لذلك كان عليه أن يستغل معلوماته العسكرية للحصول على الأمن والحماية أولًا، ولتحقيق أكبر عائد مادي ثانيًا بما يكفل له حياة مستقرة في وطنه الجديد.
ظل لدى رجال الموساد شكوك حول العملية برمتها، وكبر لديهم هاجس تحسبوا له كثيرًا، وهو أن المخابرات المصرية ربما تقوم بخدعة كبرى، وأن إرسال عباس حلمي بطائرة عتيقة لا تساوي شيئًا إلا لعبة مهارية خارقة من المصريين لتسريب معلومات مغلوطة عن «ميج 21» تربك بها حساباتهم ومعلوماتهم «غير اليقينية» عن بعض أسرار الطائرة، ونقاط تميزها.
أعاد الإسرائيليون أسئلتهم على «حلمي» كثيرًا، وعرضوه على جهاز الكشف عن الكذب، وبينما الأسلاك الملتصقة برأسه وصدره تتصل بأجهزة رسم المخ، وقياس الذبذبات والنبض، كان 6 من الخبراء الفنيين دفعة واحدة يعكفون على استجوابه، حتى تفككت قواه، وبكى بحرقة في يأس طالبًا منهم إعادته إلى مصر، فإعدامه هناك أرحم من العذاب الذي يلاقيه عندهم.
ورغم أن الرسوم الكهرومغناطيسية للجهاز الأمريكي الصنع، أثبتت أنه لا يكذب، فقد قال بعضهم: إن الطيار المصري ربما أعد إعدادًا محكمًا لتلك المهمة، وأنه قد دُرب عليها عشرات المرات قبل أن يبعثوا به إليهم، وتزامنًا مع ذلك كانت دائرة الشكوك داخل الموساد تضيق وتتسع، ومع ذلك، فقد اعتبر الموساد فرار الطيار المصري ثروة هائلة، ستدفع ربما بأحدهم من الطيارين إلى تقليده، والهرب بطائرته الأسطورية لإسرائيل، وعلى هذا ترك مصير الطيار المذعور إلى أن يقول الأمريكيون رأيهم النهائي.
عندما تلقى «C I A» تقريرًا وافيًا بما تم التوصل إليه، اتصل رئيس المخابرات المركزية (1) بالموساد يطلب منه مساعدة فريق من الفنيين، سيبعث به إلى تل أبيب لاستجواب الطيار المصري، واستبيان صدقه من عدمه.
من مطار اللد في تل أبيب، اتجه فريق الفنيين الأمريكي إلى مقر الموساد الجديد، حيث العشرات من خبرائها انعزلوا عن العالم المحيط بهم، وعكفوا على دراسة وتحليل كل كلمة تفوه بها عباس حلمي، ومراجعة قياسات جهاز كشف الكذب من جديد، قبل أن يصافحه الأمريكيون بود، وأوصلوا رأسه وصدره مرة ثانية بجهاز حديث استقدموه معهم، كان بحجم حقيبة السفر، وذي قياسات تحليلية أفضل.
وسألوه مباشرة: أي نوع آخر من الطائرات طرت بها بخلاف ميج 21؟
أجاب دون تردد: السوخوي الاعتراضية su-9، والسوخوي su-7b ذات المقعدين.
من مطار اللد في تل أبيب، اتجه فريق الفنيين الأمريكي إلى مقر الموساد الجديد، حيث العشرات من خبرائها انعزلوا عن العالم المحيط بهم، وعكفوا على دراسة وتحليل كل كلمة تفوه بها عباس حلمي، ومراجعة قياسات جهاز كشف الكذب من جديد، قبل أن يصافحه الأمريكيون بود، وأوصلوا رأسه وصدره مرة ثانية بجهاز حديث استقدموه معهم، كان بحجم حقيبة السفر، وذي قياسات تحليلية أفضل.
وسألوه مباشرة: أي نوع آخر من الطائرات طرت بها بخلاف ميج 21؟
أجاب دون تردد: السوخوي الاعتراضية su-9، والسوخوي su-7b ذات المقعدين.
سُئل: ما الفرق بينهما طولًا وعرضًا؟
أجاب: لا فرق في الطول بينهما فطول كلتاهما 17 مترًا، وأقصى عرض للأولى 8 أمتار، والثانية 9 أمتار، والجناح مسحوب للخلف.
أجاب: لا فرق في الطول بينهما فطول كلتاهما 17 مترًا، وأقصى عرض للأولى 8 أمتار، والثانية 9 أمتار، والجناح مسحوب للخلف.
سُئل: ما تسليح السوخوي su-9 من الصواريخ؟
أجاب: عادة صواريخ anab جو / جو، التي توجه راداريًا وبالأشعة دون الحمراء، فضلا عن عدة أسئلة أخرى.
وبعد التحقيق انتهت المخابرات الأمريكية إلى أن الطيار المصري ليس مدسوسًا، فهو ذكي جدًا ودقيق للغاية، ولا يمكن لمصر أن تفرط في طيار من هذا النوع ليعمل كجاسوس، ومن هنا صدرت الأوامر بتغيير شكله لتوفير الحماية له، وتغيرت ملامحه بالكامل.
أجاب: عادة صواريخ anab جو / جو، التي توجه راداريًا وبالأشعة دون الحمراء، فضلا عن عدة أسئلة أخرى.
وبعد التحقيق انتهت المخابرات الأمريكية إلى أن الطيار المصري ليس مدسوسًا، فهو ذكي جدًا ودقيق للغاية، ولا يمكن لمصر أن تفرط في طيار من هذا النوع ليعمل كجاسوس، ومن هنا صدرت الأوامر بتغيير شكله لتوفير الحماية له، وتغيرت ملامحه بالكامل.
في القاهرة، لم يعلق الجهاز الإعلامي المصري على الحدث علنيًا، والتزم رئيس المخابرات العامة صلاح نصر «الصمت»، غير أن هذا الصمت كان يحمل كل دلالات الترقب، ويخفي وراءه معركة سرية، عندما خطط صلاح نصر ورجاله لاستعادة الطيار الهارب، وكانت الأوامر واضحة وحاسمة: «لا بد من اختطاف عباس حلمي ومحاكمته في القاهرة، مهما تكلف الأمر، إنها رغبة عليا وواجب وطني، ومعركة».
وهذا ما حدث بالفعل، وجيء به في صندوق من الأرجنتين، بعد تعقبه من إسرائيل حتى هناك رغم العمليات التجميلية التي أجراها له الإسرائيليون لتبديل ملامحه، والدروس الأمنية في الإخفاء والتمويه لتحصينه ضد الوقوع في خطأ يؤدي إلى كشفه، بالإضافة إلى الهوية الجديدة التي تخفى وراءها.
وكانت عملية اختطافه من القارة البعيدة لطمة صاعقة لأجهزة مخابرات إسرائيل، ولا تزال هذه العملية غامضة حتى الآن في تفاصيلها.