إعلام سوريا
كانت الحرب العالمية الأولى أول حرب آلية، طائرات ودبابات ومدرعات بدل الخيول والبغال، والحرب الكونية الثانية كانت أول حرب تقوم على الاتصالات والمعلومات: اللاسلكى والإذاعات وطائرات الاستطلاع وبناء الخطط على معرفة مسبقة باستعدادات العدو، ثم تحول كل شىء إلى إعلام، فأصبح هو السلاح التمهيدى الأول لكل شىء، وصارت طائرات «الدرون» مثل بندقية بمنظار تصطاد الرجال وهم فى سياراتهم، من خلال مكتب موجود فى أميركا.
تطور الإعلام كسلاح تطورا جذريا عندما تحول من الكذب إلى الحقيقة، من غوبلز، وزير هتلر، إلى المصارحة وذلك لأن الناس تطورت ووسائل المعرفة تقدمت وصار التليفزيون فى كل بيت ومعه المراسلون وصورهم وصور الضحايا والموت، وكانت «الجزيرة» أهم ظاهرة إعلامية فى القرن الماضى: محطة كبرى ومؤثرة تخرج من دولة صغيرة فى العالم الثالث، وليس فى أميركا أو أوربا، وفى العالم الثالث لم تخرج من مصر، أو من لبنان، منشأ السوق الإعلامية العربية بل من قطر.
عاد الطبيب بشار الأسد من لندن ليجد أن الإعلام فى بلده لايزال فى عصر الراديو ولغة أحمد سعيد ولا وجود له خارج الحدود. ورأى أن إعادة النظر والهيكلة تحتاج إلى وقت فاتكل على الصداقات المتوافرة، ومنها قطر، ورفيق الحريرى فى لبنان، سواء من خلال ما يملك من مؤسسات أو من نفوذ فى العواصم.
عندما وقعت الواقعة فى سوريا، كان الرئيس السورى قد فقد رفيق الحريرى وقطر. ثم ما لبث أن فقد الجميع واضطرت مجلة «فوغ»، إلى الاعتذار عن غلاف خاص حمل صورة أسماء الأسد كنموذج للحداثة، وبقى الإعلام السورى بأدواته القديمة يحاول عملا مستحيلا، وهو تغطية وتعمية حرب ضارية تدخل الآن عامها الثالث.
لم يتبلغ الإعلام السورى حتى الآن أن الإعلام الذكى قد دخل عصر الحقائق، وأن غوبلز وقوميسار الدعاية السوفياتى أصبحا لاغيين بل شيئا سقيما من ماضٍ سقيم. هناك لغة لم تعد فى التداول، فى أى مكان. وهناك مصطلحات وتعابير ومسرحيات وتركيبات لم تعد تعنى شيئا لأحد فى أى مكان.
آخر فصل فى إعلام ما قبل الحداثة كتبه الدكتور محمد سعيد الصحاف ببلاغة وطلاقة مشهودتين، وطربت الناس لأوصاف سعيد الصحاف كما كانت تطرب لأوصاف أحمد سعيد. كلاهما أسقط من الطائرات العدوة ما يزيد على ما يملك العدو منها. لكن الحقيقة أطلت فى آخر الخطاب. وعندما تساءل الرئيس الأسد فى مقابلة «الصنداى تايمز» الأحد الماضى، ما إذا كان الطفل المقطع سورياً، أجابت «العربية» على السؤال بالصوت والصورة: صوت الطفل المقطع وصورته، بلا ساق أو ساعد.
نقلاً عن الشرق الأوسط