رئيس التحرير
عصام كامل

«حطين» و«جالوت».. ملحمتان غيرتا وجه التاريخ



بلغ الغرور بـ"جانكيز خان" قائد جيوش التتار مبلغه، وراح يحتل البلاد المجاورة لإمبراطوريته الواحدة تلو الأخرى.. لم تصمد بغداد أمام غزواته وسقطت عاصمة الخلافة في يدي جنوده ووجد المسلمون أنفسهم بلا خليفة لأول مرة في تاريخهم، ولم يصد هجمات التتار البربرية عن الدول الإسلامية سوى القائد سيف الدين قطز الذي لم تكن ولايته على مصر استتبت بعد.


كان جنكيز خان قد نجح في بناء إمبراطورية مترامية الأطراف قبل بزوغ شمس القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي، امتدت حدودها من تخوم بلاد الصين شرقا حتى منطقة البحر الأسود وبحر قزوين غربا. وكان اسمه الحقيقي «تيموجي» ومعناه الصلب النقي.

وقد برز اسم هذا القائد المغولي للمرة الأولى عندما قاتل التتار على رأس كتيبة من أرستقراطية الرعاة وانتصر عليهم، وصار خاقانا على المغول؛ وبذلك أعاد إحياء اسم أسرة المغول بعد اندثاره في منغوليا نفسها. وعلى الرغم من أن الوثائق الصينية تطلق عليهم اسم «يوان» على المغول، فإنهم قد عرفوا في منغوليا نفسها باسم «التتار». وتستخدم المصادر التاريخية العربية الاسمين معا، ولكن اسم التتار أو التتر، يتردد في هذه المصادر بوتيرة أكبر من اسم المغول. وقد أفاد جنكيزخان من التجار المسلمين الذين استضافهم في بلاطه ليكونوا أول معلمي المغول في مضمار الحضارة. وكانت ديانات المغول موزعة بين عبادة الشمس، والمسيحية، والإسلام، والبوذية وكان التسامح الديني سائدا بينهم.

كان أول هجوم يشنه المغول على بغداد سنة 635 هجرية ولكنهم هزموا ولم يتمكنوا من دخول العاصمة العباسية، واضطروا إلى الانسحاب. وفى سنة 655 هجرية/1257م قاد هولاكو جيوشه في اتجاه بغداد، وبعث يطلب الضيافة من الخليفة "… ونزل هولاكو تجاه دار الخلافة، وملك ظاهر بغداد وقتل من الناس عالما كبيرا…" على حد تعبير المؤرخ تقي الدين المقريزي. وهكذا باتت بغداد تحت رحمة جحافل المغول المدمرة وصار سقوط بغداد مسألة وقت فقط".

جاءت الصدمة العظمى التي زلزلت العالم الإسلامي في السنة التالية 656 هجرية /1258م، ففي أول شهر صفر من تلك السنة أمر هولاكو بالهجوم العام على بغداد. وكان الهجوم عاصفا وعنيفا، وفى اليوم الرابع من الهجوم استسلم الخليفة العباسي المستعصم بالله، وسلم عاصمته من دون شرط، وبعد عشرة أيام قتل الخليفة وآل بيته وقتل الناس ببغداد، وتمزقوا في الأقطار، وخرَّب التتار الجوامع والمساجد والمشاهد، وسفكوا الدماء حتى جرت في الطرقات، واستمروا على ذلك أربعين يوما وخربت العاصمة التي كان اسمها مرادفا للحضارة نفسها. وشاعت قصص الرعب الحقيقية والمصطنعة تحكى ما فعله المغول بالمكان وبالناس.

في القاهرة كانت سلطنة المماليك قد شهدت تتويج السلطان المظفر سيف الدين قطز، بعد عزل السلطان الطفل المنصور على، وبينما كان السلطان الجديد يحاول توطيد سلطته جاءته رسالة من هولاكو تنضح كلماتها بالغطرسة والغرور، وتحاول بث الرعب في القلوب، وتستغل شهرة المغول بالقسوة مضمون الرسالة « إنا جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على من حل به غيظه …. فنحن لا نرحم من بكى ولا نرق لمن شكى…. فعليكم بالهرب وعلينا بالطلب، فأي أرض تؤويكم، وأي بلاد تحميكم » لم يكن أمام السلطان الجديد سوى الإذعان للتهديد أو القتال ورد قطز بقتل رسل المغول فيما يشبه إعلان الحرب وتم إعلان الجهاد والتعبئة العامة لقتال التتار وكانت شهرة التتار ووحشيتهم قد جعلت بعض الأمراء يترددون في الخروج لقتالهم ولكن قطز استطاع إقناعهم بالخروج للقتال بعد أن هدد بالخروج وحده.

جاء ركن الدين بيبرس من الشام بقواته لينضموا إلى جيش السلطان بعد خصومة طويلة تسببت في هروبهم من مصر لعب فيها قطز دورا رئيسيا. وقد لعب بيبرس دورا مهما في هزيمة المغول في غزة وعين جالوت وبيسان، فضلا عن مطاردة فلولهم فيما وراء الفرات بعد انتهاء المعارك الرئيسية. وبعد أن أتم السلطان سيف الدين قطز استعداداته أمر بخروج الجيش لقتال التتار.

كان على مقدمة الجيش الأمير بيبرس البندقداري حيث سار إلى غزة بقواته لاستطلاع أخبار التتار،وهناك لقي طلائع جيش التتار حيث هزمهم وطردهم من هناك وسيطر على غزة وبعد ذلك وصلت قوات الجيش المصري الرئيسي إلى غزة، ثم رحل سيف الدين قطز بقواته عن طريق الساحل الفلسطيني. ومرَّ بعكا التي كانت لا تزال تحت سيطرة الصليبيين وخرج إليه أمراؤهم بالهدايا ليعرضوا عليه المساعدة ضد المغول ولكنه رفض وطلب منهم البقاء على الحياد، وتوعدهم بالانتقام إذا ما حاولوا إيذاء عسكر المسلمين أثناء سيرهم لقتال التتار.

وفي تلك الأثناء كان الأمير بيبرس البندقداري يناوش قوات المغول حتى يخفي تحركات الجيش الرئيسي، ثم لحق به السلطان الذي كان يقود بنفسه بقية قوات الجيش وكان جيش قطز قد تكاثر بمن انضم إليه من جنود الشام والخوارزمية، كما كان المتطوعون من مصر والشام وفلسطين والبلاد المجاورة أكثر من الجند النظاميين. وفى يوم 26 رمضان سنة 656 هجرية /2 سبتمبر 1260م، على أرض عين جالوت وهى بلدة صغيرة في الريف الفلسطيني تقع بين بيسان ونابلس دارت المعركة الحاسمة بين القوات الإسلامية والقوات المغولية لقد كانت هذه المعركة واحدة من المعارك الفاصلة في تاريخ المنطقة العربية بأسرها من ناحية، كما كانت تأكيدا للوجود العسكري والسياسي لدولة سلاطين المماليك التي كانت قد خرجت للوجود قبل عشر سنوات فقط من هذه المعركة من ناحية أخرى.

معركة حطين
يعتقد البعض أن معركة حطين نهاية الفرنج في المنطقة، والحقيقة أنها بداية النهاية، إذ استمرت الحروب بعدها قرابة القرن، وانتهت أخيرًا باقتلاع الممالك الفرنجة من ساحل الشام وفلسطين،فحطين لم تحطم ممالك الفرنج ولم تقض عليها نهائيًا، بل أسست بداية جديدة لموازين القوى.

بدأ صلاح الدين بداية حكمه مصر عام 564 هـ، وأول مواجهة جدية كانت له مع الصليبيين هي حطين وذلك عام 583هـ، وبين هذين التاريخين مناوشات محدودة مع الصليبيين، فصلاح الدين لم يستل سيفه منذ اليوم الأول وبدأ هجومه المعاكس على الممالك الإفرنجية بل أخذ وقته في الإعداد والتنظيم والدراسة والمراقبة وتفحص مواقع القوة والضعف.

بدأ فيها تثبيت الأوضاع في مصر، وأسقط فيها الدولة الفاطمية، وأقام الخطبة والحكم للخلافة العباسية، فعندما توفي نور الدين سنة 568هـ بدأ صلاح الدين ببلاد الشام ليضمها تحت إمرته ففتح دمشق وحمص وحلب وحماة وغيرها، وفتح اليمن، وأمن الطريق للحجاج إلى مكة والمدينة، وأسقط المكوس، ونشر العدل، وأعد الجيوش، حتى كانت المعركة الفاصلة في حطين.

وكانت معركة حطين أعظم من مجرد كارثة عسكرية حلّت بالصليبيين، لقد كانت في حقيقة أمرها بشيرًا بنجاح المسلمين في القضاء على أكبر حركة استعمارية، شهدها العالم في العصور الوسطى، كما شكّلت حدًا تراجع عنده المدُّ الصليبي باتجاه الشرق الأدنى الإسلامي وبداية النهاية للوجود الصليبي، وقد أنهت المعركة زهاء تسعة عقود من الاضمحلال والتدهور والتشرذم في المنطقة الإسلامية في الشرق الأدنى.

كانت معركة حطين معركة تحرير فلسطين لأنها هي التي فتحت طريق النصر إلى بيت المقدس، وباقي فلسطين، وقد وصف ابن واصل هذه المعركة بقوله "كانت موقعة حطين مفتاح الفتوح الإسلامية وبها تيسر فتح بيت المقدس".

مصادر
معركة عين جالوت… سبعمائة وخمسون عامًا – بقلم الدكتور قاسم عبده قاسم
مقال الدكتور على الصلابي عن إبراز نتائج معركة حطين
الجريدة الرسمية