رئيس التحرير
عصام كامل

خطر الإفلاس وفوائد حل أزمة الدين اليوناني


تتمسك مجموعة اليورو ببرنامج الإنقاذ المالي لليونان دون تعديل جوهري، في حين ترفض الحكومة اليونانية شروطه التقشفية وتبعاته الاجتماعية القاسية، ومع تمسك كلا الطرفين بموقفه يبدو الحل الوسط أهون الشرّين للجميع.

تلقت اليونان منذ عام 2010 حوالي 240 مليار يورو في إطار برنامج التقشف والإنقاذ المالي الأوربي لخدمة ديونها البالغة حوالي 320 مليار يورو، وقد ذهب ما يزيد على 200 مليار من القروض المقدمة حتى الآن لإنقاذ البنوك و"صناديق التحوط" الدائنة لأثينا وفي مقدمتها البنوك الفرنسية والألمانية، وقدم هذه القروض كل من الاتحاد الأوربي وصندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوربي مقابل التزام اليونان بإجراءات تقشفية صارمة تشرف على تنفيذها لجنة ثلاثية تمثل الأطراف الدائنة.

وقد أدت هذه الإجراءات إلى تسريح الآف الموظفين، وتخفيض الأجور وتعويضات التقاعد بنسبة 25 %، كما تراجع بموجبها الإنفاق الحكومي على الخدمات والإدارات العامة بشكل أدى إلى تدني مستواها وإغلاق الكثير منها بشكل كلي أو جزئي، الأمر الذي أثر بشكل سلبي على مستوى معيشة غالبية اليونانيين، وأوصل كثيرون منهم إلى حافة البؤس والفقر على حد تعبير وزير المالية اليوناني الجديد جيانيس فاروفاكيس، وفي الوقت الذي يبلغ فيه معدل البطالة في الاتحاد الأوربي ككل 11 % فإن مستواه في اليونان بحدود 26 بالمائة، غير أن الإجراءات المذكورة ساعدت أيضا على زيادة إيرادات الدولة وتحقيق توازن مقبول في الموازنة العامة بفضل التقشف ورفق المعدلات الضريبية وبعض الإصلاحات الهيكلية.

كما عاد الاقتصاد اليوناني إلى النمو بنسبة حوالي 1 % خلال العام الماضي 2014 بعد ست سنوات من الانكماش، وبرز هذا النمو بشكل خاص في القطاعات الموجهة للتصدير.

تبعات التقشف القاسية

أدت التبعات الاجتماعية القاسية لبرنامج الإنقاذ في اليونان إلى تأزم الوضع السياسي وإجراء انتخابات مبكرة جاءت في يناير 2015 بحكومة جديدة معادية لإجراءات التقشف يقودها حزب اليسار اليوناني/ سيريزا بزعامة الشاب اليكسي تسيبراس، وبعد تسلمها مهامها بدأت الحكومة الجديدة مع نظيراتها في دول منطقة اليورو مفاوضات تهدف حكومة تسيبراس من ورائها إلى تخفيف إجراءات التقشف والرقابة المالية الصارمة التي ينص عليها برنامج الإنقاذ المالي قبل الموافقة على تمديده اعتبارا من نهاية فبراير الجاري.

وتستند حكومة تسيبراس في مطلبها هذا إلى أن أكثر من 75 % من أموال البرنامج التي تم دفعها حتى الآن قدمت لإنقاذ البنوك الغربية الدائنة، وأن الإجراءات التقشفية التي يفرضها البرنامج أنهكت الاقتصاد وأفقرت الناس ولم تترك هامشا للاستثمار بشكل يوقف تدهور مستوى المعيشة، وبناء على ذلك لا بد من إعادة النظر بشروط البرنامج وتعديلها بحيث يتم تقليص إجراءات التقشف بنسبة 30% من أجل التخفيف من تبعاتها على الفقراء وذوي الدخل المحدود.

موقف ألماني صلب

غير أن مطلب الحكومة اليونانية يواجه برفض حكومات دول منطقة اليورو، وفي مقدمتها الحكومة الألمانية التي ترى على لسان وزير المالية فولفغانغ شويبله، أنه لا بد من تمديد البرنامج دون تعديلات جوهرية عليه، ما يعني الحفاظ عليه مع الاستعداد للنظر في تعديل بعض تفاصيله بشكل أكثر مرونة، وعلى عكس وزير المالية اليوناني فاروفاكيس يرى شويبله وأقرانه الآخرين في منطقة اليورو حتى الآن بأن اليونان لا يمكنها الوفاء بالتزاماتها تجاه الدائنين دون تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية وعمليات الخصخصة التي ينص عليها البرنامج الحالي، وفي سياق متصل تخشى ألمانيا وغالبية دول الاتحاد الأوروبي من أن التراخي أمام اليونان وإعادة النظر ببرنامج الإنقاذ الخاص بديونها سيفتح المجال لمطالب مشابهة من قبل دول أخرى تعاني من تفاقم أزمة الديون كالبرتغال وأسبانيا وإيطاليا، والذي يعني زعزعة المبادئ والأسس الاقتصادية التي قام عليها مشروع الاتحاد الأوروبي برمته.

سيناريو الإفلاس

ومع استمرار الخلافات بين الحكومة اليونانية الجديدة من جهة ونظيراتها في دول منطقة اليورو من جهة أخرى تشتد حدة الانتقادات والتحذيرات الموجهة للحكومة اليونانية من مخاطر رفض برنامج الإنقاذ الحالي الذي ينتهي مفعوله أواخر فبراير الجاري، وتذهب الغالبية الساحقة من الآراء إلى حد اتهام الحكومة اليونانية بعدم المسئولية والتنبؤ بكارثة اقتصادية تتمثل في إفلاس اليونان وهروب المستثمرين منها في حال رفضها تمديد البرنامج، ومما يعنيه ذلك عودتها إلى الوراء وتحوّل اقتصادها إلى اقتصاد زراعي على حد تعبير ألكسندر كريتيكوس، رئيس قسم الأبحاث في المعهد الألماني للبحوث الاقتصادية. كما سيعني معاناتها من مستويات تضخم تزيد على 25 % وخروجها من منطقة اليورو وإعادة عملتها السابقة الدرخما إلى التداول بدلا من العملة الأوربية المشتركة "يورو".

غير أن هذه الآراء التي تحذر اليونان من تبعات سيناريو الإفلاس ليل نهار لا تتناول على محمل الجد تبعات هذه السيناريو على دول منطقة اليورو ومعها مجمل دول الاتحاد الأوروبي، صحيح أن بإمكان الاتحاد الأوروبي تحمل التبعات الاقتصادية لإفلاس بلد صغير كاليونان، غير أن المشكلة الأساسية لسيناريو الإفلاس ليست محصورة في الشأن الاقتصادي، بل تتجاوزه إلى التبعات السياسية التي ستعني اهتزاز الثقة بالمشروع الأوروبي برمته، وسيكون لاهتزاز الثقة هذا بدوره تبعات تبدأ بانهيارات تصيب البورصات وأسواق المال يليها تأثيرات في غاية السلبية على مستقبل العملة الأوربية التي ستتراجع الثقة بها كعملة احتياط عالمية، كما أن الإفلاس وإخراج اليونان من منطقة اليورو قد يدفعها إلى لعب دور المعرقل لقرارات وخطط الاتحاد الأوربي من خلال وضعها فيتو عليها.

الحل الوسط

على ضوء ما تقدم يبدو خيار التوصل إلى حل وسط أفضل الممكن لكلا الطرفين، وينبغي لهذا الحل أن يحفظ ماء وجه الحكومة اليونانية إزاء ناخبيها الذين وعدتهم بتخفيف إجراءات التقشف، ويضمن في نفس الوقت التزام هذه الحكومة بسداد الديون على أساس إطالة الفترات اللازمة للوفاء بقسم منها، صحيح أن حلا كهذا لن يعجب غالبية حكومات دول الاتحاد الأوربي، لاسيما التي تعاني من أزمات ديون عالية وإن كانت أقل حدة من أزمة الدين اليوناني، غير أن لكل قاعدة استثناء، وفي هذه الحالة تشكل اليونان هذا الاستثناء، لأن التوصل إلى الحل الوسط سيكون لها من الإيجابيات أكثر بكثير من السلبيات على مختلف الأطراف المعنية، ختاما لا بد من القول أن على مجموعة اليورو عدم تكرار التجربة اليونانية مع دول أخرى في المستقبل، ومما يعنيه ذلك عدم قبول عضوية دولة في المجموعة على أساس بيانات اقتصادية لا تلبي الشروط والأسس الاقتصادية التي بني عليها مشروع الاتحاد الأوربي.

هذا المحتوى من موقع دوتش فيل اضغط هنا لعرض الموضوع بالكامل

الجريدة الرسمية