رئيس التحرير
عصام كامل

نكسة 57



نعم هي نكسة 57، هذا ليس خطأ في العنوان، فأنا لا أقصد نكسة 67 الشهيرة، فالنكسة هذه المرة هي نكسة المادة 57 من مشروع قانون الخدمة المدنية، نكسة قانونية خطيرة، ستشكل نكبة ستحل بالموظف العام وبالمرفق العام وبالعدالة في آن واحد.


الموظف العام سيفقد إذا صدرت هذه المادة في القانون أهم الضمانات القانونية التي يتمتع بها عند مساءلته تأديبيا، سيفقد ما كان يتمتع به من ضمانات الحيدة والتجرد والاستقلال عند مباشرة التحقيق معه في المخالفات المنسوبة إليه، وذلك بإلغاء حمايته من سطوة رؤسائه بجهة عمله من التنكيل به إذا تجرأ وكشف أوجه فساد وأبلغ عنها، إذ وفقا للمادة 57 من مشروع القانون إذا تقدم الموظف بشكوى إلى النيابة الإدارية يكشف فيها ما ترآى له من أوجه فساد أو قصور وظيفى، وذلك إعمالا لحقه الدستورى في تقديم الشكاوى واللجوء إلى جهات التحقيق القضائية، فيكون من المنطقى أن تغل يد جهة الإدارة المشكو في حقه عن اتخاذ أي إجراء أو تصرف تجاه الشاكى أو غيره من العاملين حتى تنتهى النيابة الإدارية من تحقيقاتها التي ستكشف وجه الحقيقة فيما ورد بالشكوى وهو ما ينص عليه قانون العاملين المدنيين بالدولة الحالى.

بيد أن المادة 57 ألغت ذلك القيد على جهة الإدارة، وأعطتها الحق في أن تبادر رغم أنها المشكو في حقها، إلى التحقيق في ذات الوقائع والمخالفات، بل وإصدار قرارات التصرف في التحقيق، فتحفظ التحقيق لمن تريد حمايته وتجازى من تريد التنكيل به حتى لو كان الشاكى نفسه عقابا له على تجرؤه وتقدمه بشكوى إلى النيابة الإدارية أو إلى أي جهة رقابية أخرى، وذلك كله أثناء مباشرة النيابة الإدارية التحقيق، التي يكون أمامها في هذه الحالة إلا التقيد بنتائج التحقيقات الصورية التي باشرتها جهة الإدارة باعتبارها تشكل سابقة فصل في المسئولية التأديبية، التي ستصير مسئولية صورية، لا طائل من ورائها، ولا جدوى منها، بل لا جدوى بذلك من وجود النيابة الإدارية ذاتها.

المادة 57 في مشروع قانون الخدمة المدنية الجديد ستشكل نكبة للمرفق العام، إذ ألغت المادة الجديدة اختصاص النيابة الإدارية بالانفراد وحدها بالتحقيق في المخالفات المالية، خطأ فادح، وسيؤدى إلى الإضرار الجسيم بأموال ومصالح الدولة، وإلى الانتقاص من الحماية القانونية والدستورية للمال العام، فما ورد بمشروع القانون غير مبرر على الإطلاق، ويتعارض مع المصلحة العامة للدولة، إذ أن مشروع القانون أسند إلى الإدارات القانونية بجهة الإدارة الاختصاص بالتحقيق في المخالفات المالية، وإحالة ما تراه منها إلى النيابة الإدارية.

رغم أن أعضاء الإدارات القانونية لا يباشرون التحقيق في المخالفات المالية منذ عام 1983 وبالتالى لا تتوافر لأعضائها الخبرة الكافية لمباشرة هذا النوع من التحقيقات المستندية والتي تستوجب في القائم بمباشرتها خبرة كبيرة باللوائح المالية والمخزنية، وهو الأمر الذي لا يتوافر إلا لأعضاء النيابة الإدارية المتخصصين وحدهم في مباشرة التحقيق في المخالفات المالية منذ 41 عاما، ورغم ذلك أهدر المشروع هذه الخبرات دون مبرر، بالإضافة إلى أنه لا يوجد ما يبرر هذا التعديل التشريعى على الإطلاق، فالإحصائيات القضائية للنيابة الإدارية في الأعوام الأخيرة تشير إلى ارتفاع نسبة إنجاز التحقيق في قضايا المخالفات المالية بنسبة تصل إلى 97%، وهو الأمر الذي يكشف زيف المزاعم الكاذبة التي يتم ترويجها بأن النيابة الإدارية تتأخر في إنجاز القضايا.

فإسناد الاختصاص بتحقيق المخالفات المالية للنيابة الإدارية وفقا للقوانين الحالية، كان لتحقيق هدف أساسى وهو ضمان عدم إخفاء هذه المخالفات، وعدم التستر على مرتكبيها، وضمان جدية مساءلتهم، وضمان تحريك الدعوى الجنائية عن هذه المخالفات باعتبار أن النيابة الإدارية تختص بإحالة الشق الجنائى إلى النيابة العامة مباشرة، بما يحقق حماية حقيقية للمال العام من العبث أو الإضرار به، وهو ما تكفله النيابة الإدارية باعتبار أنها هيئة قضائية مستقلة عن القيادات الإدارية بجهة الإدارة، لا تأثير لأحد عليها، ولا مصلحة لها في إخفاء المخالفات.

هو ما لا يتوافر في الإدارات القانونية بوزارات الحكومة ووحدات الإدارة المحلية التي لا يتمتع الباحثون القانونون بها بالاستقلال أو الضمانات في مباشرة عملهم، وهو ما يمثل خطورة شديدة، إذا تم إسناد الاختصاص بالتحقيق في قضايا مالية خطيرة لهم، إذ قد يتعرضون لضغوط وتأثيرات من رؤسائهم، بما يؤثر على حيدة التحقيق، وعلى جدية إجراءات المساءلة التأديبية، ومن ثم الانتقاص من الضمانات الدستورية والقانونية المكفولة للموظفين العموميين باسناد الاختصاص بالتحقيق معهم في هذه المخالفات إلى هيئة قضائية محايدة، وهو ما يلقى بالعديد من علامات الاستفهام حول هذا التعديلات والهدف الحقيقى منه، الذي يبعد تماما عن الصالح العام.

و أخيرا فإن المادة 57 من مشروع القانون الجديد تشكل نكسة للعدالة، بتغولها على اختصاص النيابة الإدارية، وتكبيلها بقيود ستؤدى إلى شل فاعليتها، وإضعاف دورها، وهي الهيئة التي يكفى في وصفها ما وصفته به الأحكام الرائعة لجيل العظماء من كبار قضاة مجلس الدولة من أنها هيئة قضائية تمارس الاختصاصات التي خولها لها المشرع بوصفها ممثلة للمجتمع وللدولة حماية لسيادة القانون ورعاية لمفهوم الصالح العام ممثلًا في كفاية حسن أداء الموظفين العموميين ومن في حكمهم لأعمال وظائفهم وهي القوامة على الدعوى التأديبية، منزهة عن الهوى.

فيجب أن تكون ذات اختصاص أصيل ومطلق وغير مقيد بالتحقيق في كل ما يتصل بعلمها من وقائع تشكل مخالفات مالية أو إدارية، وأن يكفل لها القانون الاستقلال التام عن جهة الإدارة في مباشرة رسالتها، فما أنشأت النيابة الإدارية إلا لتحقيق ما أراده لها المشرع من أن تكون وسيلة لإصلاح الوظيفة العامة ولإحكام الرقابة على الموظفين في تنفيذ القوانين على نحو يكفل تحقيق الصالح العام، فلا تحاربوها فهى تعمل لمصلحة الوطن، فلا تحاربوا الوطن وتشيعوا فيه الظلم والفساد بقوانين جائرة.
الجريدة الرسمية