رئيس التحرير
عصام كامل

رحيل شعاع


أخذت تلملم أشياءها استعدادًا للرحيل، قبلت صغارها قبل نقلها للمستشفى في حالة خطيرة، قرر الأطباء إجراء عملية قيصرية فورية لإنقاذها هي وجنينها، وضع المولود بالحضانة، ووضعت هي على أجهزة تنفس خاصة لعلاجها، بقيت "شعاع" بالمستشفى طريحة الفراش بالعناية المركزة، غائبة عن الوعي ما يقرب من ثلاثة أشهر، ثم رحلت.

لم يكف صغارها عن السؤال عنها يومًا، أين ماما؟.. لماذا تأخرت؟.. والأصعب على نفوس الجميع مرارة حيرة البحث عن إجابة السؤال.

إبلاغ الطفل بخبر وفاة أحد الوالدين أمر يصعب على النفس، إلا أنه لا ينبغي أبدًا أن نخفيه عنهم؛ لأن عدم المصارحة تزيد من مخاوف الصغار وتعرضهم لمخاطر جسيمة، كفقدان الثقة فيمن حولهم، وعدم الشعور بالأمان، يعاني الصغير طويلا من غياب من مات، يسأل أين ذهب، وغالبًا ما يكون قد فهم بالفطرة أنه مات ولكن لا يستطيع التعبير عن حزنه فيكبت آلامه في نفسه.. 

وقد يظن أن هذا الميت يرفضه ولا يحبه لذلك غاب وتركه، لذلك يرى علماء النفس والتربية، أنه حتى عند موت الأم يجب إخبار أطفالها أنها ماتت، ولا ينبغي أن نقول لهم إنها مريضة أو مسافرة، فمن حقهم التعبير عن مشاعرهم حتى بالبكاء، ومن الخطأ منعهم من ذلك.
 
يجب اختيار الوقت المناسب لإبلاغ الطفل بهدوء، والحديث إليه باطمئنان، حتى ينتقل له الإحساس بالأمان، والأهم ألا يشعر بأن له ذنبًا فيما حدث، فالطفولة مرحلة مليئة بالخيال، كذلك على الأهل الإجابة عن جميع تساؤلات الأطفال بالطريقة التي تتناسب مع أعمارهم، والأفضل أن يتكلم أفراد الأسرة أمام الأطفال عن ذلك، وإلا ستبقى آلامهم دفينة للأبد، المهم أن يقال لهم الخبر برفق دون الدخول في تفاصيل لا يمكنهم استيعابها.

ولابد من منح هؤلاء الصغار الحب والحنان من كل من حولهم، فلو حصلوا على الدعم اللازم ستمر الأزمة بسلام، بل تساعدهم على التكيف مع المواقف الصعبة التي قد تقابلهم في الحياة فيصبحون أكثر صلابة.

يرى الدكتور "بنجامين سبوك"، أحد أشهر علماء التربية في العالم، أنه لا يوجد حل سحري قاطع يشفي من قلق الطفل، ويرى أنهم باختصار يصنعون لأنفسهم نوعا من التكيف مع فكرة الموت بشكل ما.. وقد يتم هذا جزئيا عن طريق الكبت أو الرفض أو الاستنكار، ويقول سبوك: "في أي مرحلة عمرية للشخص عندما يكون الخطر أعظم من قدراتنا على مواجهته، فإن العقل يحاول أن ينساه لوقت ما، ولكنه يعود إليه عندما يذكره أي شيء به ويناضل بالتغلب عليه وربما هجره في العقل الباطن، ولكن الأمر لدى الطفل يُحدث زلزلة حادة عندما يعرف الموت لأول مرة".

ويعتقد علماء النفس، أنه عندما يفقد الطفل أحد أبويه فإن حزنه يكون غاية في العنف؛ لأن الطفل في حاجة مستمرة لرؤية والديه؛ حيث تعود على وجودهما في حياته، فيصعب عليه الاستغناء عنهما، وأن صورتهما لا تغادر خياله أبدًا، وأن الحزن في هذه الحالة يكون في صورة حادة، ويؤكدون على أن الوضع قد يستمر لشهور طويلة إلى أن تمتلئ حياة الطفل بعلاقات جديدة تشغل هذا الفراغ العاطفي الذي عانى منه بعد فقد أحد والديه، لذلك أعود وأكرر: على كل المحيطين بهؤلاء الصغار، أن يجنبوهم كل أنواع المشكلات والأخبار السيئة المحزنة، دعوهم ينعمون بالهدوء النفسي واستقرار الحياة الأسرية، ويكفيهم ما مروا به من آلام ذاك الرحيل الذي يشبه رحيل شعاع الشمس الذي إن غاب يحرم الدنيا نوره ودفئه.
الجريدة الرسمية