تصبحون على حب
لأنه كان لا يكتب ولا يقول إلا ما يؤمن به رفض الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس الاستجابة لطلب الرئيس جمال عبد الناصر باستبدال عبارة «تصبحون على حب» بـ «تصبحون على محبة» تلك العبارة التي كان ينهى بها عبد القدوس البرنامج الإذاعى في ذلك الوقت، وهى العبارة نفسها التي ثار عليها عدد من رجال الدين المتشددين واعتبروها دعوة صريحة للزنى ونشر الرذيلة، ولأن عبد الناصر كان يريد إغلاق هذا الباب أمام المتطرفين طلب من الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل أن يبلغ عبد القدوس بغضبه من تلك العبارة ودعاه إلى استبدال كلمة «حب» بـ «محبة»، ومع تمسكه باختتام البرنامج بنفس العبارة ألغت الإذاعة المصرية البرنامج من الأساس وكان ذلك الموقف سببا مهما في تدهور العلاقة بين ناصر وعبد القدوس.
وفيما بعد كشف إحسان عبد القدوس عن رسالة مهمة كان قد كتبها إلى جمال عبد الناصر سنة 1955 يوضح فيها موقفه من اتهام فظيع حول «روزاليوسف»، وكانت التهمة هي الجنس والإلحاد ويقول في ملابسات كتابة الخطاب لعبد الناصر:
كانت لقاءاتى الشخصية بعبد الناصر قد تباعدت كما تتباعد دائما مع أي رجل مسئول لأنى غالبا لا أستطيع أن أساهم في تغطية مطالب المسئولين وأصبحت آراؤه الخاصة فيما ينشر بـ«روزاليوسف» تصلنى إما عن طريق الرقابة أو عن طريق أصدقاء مشتركين!
وعبد الناصر رغم ما كان عليه من تفتح فكرى كان في أحيان كثيرة يبدو متحفظا إلى حد التزمت في اختيار الكلمة التي تقال والموضوع الذي يبحث حتى خارج مجال السياسة، ولذلك فعندما تعمدت إهمال السياسة والتفرغ للأدب لم أسلم من تزمت عبد الناصر، لقد اعترض على كلمة «الحب» عندما كنت أكررها في الإذاعة قائلا في نهاية كل حديث: تصبحون على خير..
تصبحون على حب، وعرض على أن استبدلها بكلمة محبة أي أقول «تصبحون على محبة» لكنى اعتذرت وقلت له، إننى أحاول أن أفرض استعمال كلمة «حُب» بمعناها الصحيح، وتوقفت أيامها عن حديث الإذاعة وإلى اليوم، وعبد الناصر بدأ يستعمل كلمة حُب!
ويبدو أنه أيامها كان يقرأ قصص «البنات والصيف» التي كنت أنشرها في «روزاليوسف»، فأرسل لى عدم موافقته على ما ينشر أو على الأقل عدم رضائه، وفى الوقت نفسه كنت قد فتحت في «روزاليوسف» صفحات للأبحاث الدينية، وكان زميلى الدكتور «مصطفى محمود» في مرحلة معينة من مراحل فكره الدينى وكان ينشر دراسات دينية اعترض عليها أيضا «جمال عبد الناصر» ولعلى عندما أبلغت بهذه الاعتراضات رأيت أن أرد عليها برسالة بدلا من الاعتماد على نقل الكلام عن طريق الأصدقاء!
لم يكن لدى عبد الناصر قطرة من الشك في وطنية «إحسان عبد القدوس» وكان إحسان يناديه دائما «بـ «يا جيمى»، لكن ذلك كله لم يمنع من اعتقاله عندما كتب مقاله الشهير «الجمعية السرية التي تحكم مصر» في مارس سنة 1954 وطالب فيه بإنشاء حزب يمثل حزب الثورة ويضم المدنيين فقط من أفراد الشعب، وإذا أراد أحد من القادة أو من الضباط أن ينضم إليه يجب أن يستقيل أولا من الجيش.
وفى نفس المقال طالب «إحسان» بإنهاء الثورة قائلا: ليس هناك بلد يستطيع أن يعيش في نظام ثورى إلى الأبد ولا حتى عام أو عامين، إنما الثورة تقوم لتقضى على نظام فاسد وتضع نظاما آخر بدلا عنه وفورا، نظاما آخر طبيعيا تستقر عليه البلاد ويحقق الأهداف التي قامت من أجلها الثورة، وإذا حدث هذا تحقق الاستقرار وتوفرت الثقة بين الحاكم والمحكوم.
ويقول «إحسان» في شهادته عن تلك الأزمة: « قرأ جمال عبد الناصر المقال وعلق عليه، كما سمعت بعد ذلك من البعض، وعلى رأسهم «أنور السادات» بقوله: والله إحسان عنده حق.. لكن لتصارع القوى وقتها وتداخل الاختصاصات وطبيعة الأجهزة الحاكمة في تلك الفترة تقرر القبض علىّ. وفى الزنزانة رقم 19 أمضى إحسان فترة اعتقاله من 28 أبريل حتى 3 يوليو سنة 1954 أي نحو ثلاثة أشهر، وأثناء فترة اعتقاله فوجئ إحسان بمدير السجن يطلبه إلى مكتبه ليتحدث في التليفون، ولدهشته كان المتحدث هو «جمال عبد الناصر» ثم المشير «عبد الحكيم عامر» وأبديا اعتذارا له، وبعد الإفراج عنه اتصل به عبد الناصر تليفونيا ودعاه لتناول العشاء».
ولد إحسان لأبوين عملا في الفن والأدب وتأثر كثيرا بهما وكان صاحب أفكار منفتحة على العالم، وكانت له مواقف سياسية ووطنية كثيرة فقد كتب سنة 1945 مقالا ضد سفير بريطانيا في القاهرة في مجلة «روزاليوسف» التي أسستها أمه روزاليوسف ثم تولى رئاسة تحريرها ما أدى إلى اعتقاله وغلق المجلة ثم أثار بمقالاته التي نشرت في المجلة نفسها سنة 1948 صفقة الأسلحة الفاسدة للجيش والتي أجبرت وزير الحربية حينها بشكل أو بآخر على الاستقالة.
تربى إحسان في بيت جده لوالده الشيخ رضوان والذي كان متدينا جدًا وكان يفرض على جميع العائلة الالتزام والتمسك بأوامر الدين وأداء فروضه والمحافظة على التقاليد، بحيث كان يُحرّم على جميع النساء في عائلته الخروج إلى الشرفة دون حجاب. وفى الوقت نفسه كانت والدته سيدة متحررة تفتح بيتها لعقد ندوات ثقافية وسياسية يشترك فيها كبار الشعراء والأدباء والسياسيون ورجال الفن.
وكان يتنقل وهو طفل من ندوة جده حيث يلتقى زملاء من علماء الأزهر ويأخذ الدروس الدينية التي ارتضاها له جده، وقبل أن يهضمها يجد نفسه في أحضان ندوة أخرى على النقيض تمامًا لما كان عليه، وهذه البيئة التي نشأ فيها إحسان أثرت في كتاباته، لينتج روايات تخطت المحلية لتترجم بعدة لغات أجنبية، حيث يعتبر من أهم الروائيين العرب، لما صنعه أدبه من نقلة نوعية في تاريخ الرواية العربية، حيث تميزت كتاباته بالتحرر، لتبتعد قصص الحب التي يكتبها عن العذرية.
وكانت سيدة الشاشة العربية الراحلة فاتن حمامة البطلة الرئيسية لأكبر عدد من روايات إحسان عبد القدوس الرومانسية، حتى أنه قال ذات يوم: الممثلات اللاتى استطعن أن يجدن تمثيل شخصيات قصصية في مقدمتهن كانت فاتن حمامة فقد استطاعت أن تصور خيالى عندما مثلت دور (نادية) في فيلم لا أنام، وعندما جسدت دور (فايزة) في فيلم الطريق المسدود، وأذكر أنى ذهبت يوما أنا ويوسف السباعى إلى الاستديو أثناء تصوير مشاهد من فيلم لا أنام ووقفت أنا ويوسف السباعى مشدودين ونحن ننظر إلى فاتن حمامة فقد كانت تشبه البطلة الحقيقية للقصة التي كتبتها».
كتب عبد القدوس أكثر من ستمائة قصة، تحول 49 رواية منها إلى نصوص للأفلام و5 روايات تم تحويلها إلى نصوص مسرحية و9 روايات أصبحت مسلسلات إذاعية و10 روايات تم تحويلها إلى مسلسلات تليفزيونية إضافة إلى 65 كتابا من رواياته ترجمت إلى الإنجليزية والفرنسية والأوكرانية والصينية والألمانية.
وفى مقدمة كتابه «أيام شبابي» كتب إحسان عبد القدوس، الذي رحل عن عالمنا عام 1990: «يا قارئ خطى لا تبك على موتى أنا معك وغدا في التراب ويا مارا على قبرى لا تعجب من أمرى الأمس كنت معك وغدا أنت معى أموت ويبقى كل ما نشرته ذكرى فيا ليت كل من قرأ خطى دعا لي»، عاكسا بذلك قوة إيمانه.