صراع الدولة مع المجتمع المدني
هل هناك حتمية للصراع بين الدولة والمجتمع المدنى أم هناك أفق للتعاون المشترك حماية للقيم الثقافية الأساسية وإعلاء للمصلحة العامة على حساب النزعات السلطوية للسلطة، أو المصالح الخاصة للمشرفين على مؤسسات المجتمع المدنى؟
للإجابة عن هذا السؤال لابد لنا أن نشير إلى التطور التاريخى للموضوع. وذلك لأن المجتمع المدنى يعبر في الواقع عن إحدى أهم سمات المجتمع الديمقراطى الذي في تصميمه الأساسى أقام مجالا عامًا. بين الحكومة والأسرة. وهذا المجال العام Public Sphere أشبه ما يكون بمنتدى عام تمارس فيه مناقشات السياسات الحكومية وأمور المجتمع بغير حدود ولا قيود. وفلسفة هذا المجال العام أنه من الخطورة بمكان انفراد السلطة السياسية أيا كانت أيديولوجيتها للحكم بغير رقابة من الرأى العام. ورقابة الرأى العام تمارسها في العادة مؤسسات مختلفة قد يكون من أبرزها الإعلام الحر بأنماطه المختلفة، وكتابات المثقفين، والمناظرات العامة والندوات المتعددة.
غير أنه برزت منذ عقود مؤسسات اندرجت تحت ما يسمى المجتمع المدنى. وهذه المؤسسات لها أنماط مختلفة، فهناك مؤسسات حقوقية هدفها الرئيسى هو الدفاع عن حقوق الإنسان، وهناك مؤسسات مدنية معنية أساسًا بالتنمية بالمفهوم الشامل للكلمة.وأخيرًا هناك مؤسسات ثقافية تركز على التنوير وتدعيم قيم الإبداع والحوار الفكرى.
وقد تطور المجتمع المدنى، الذي كان فعالًا في إطار المجتمعات الديمقراطية أساسًا لأنه كان يعانى معاناة شديدة في ظل النظم الشمولية والسلطوية، لكى يصبح مجتمعا مدنيا عالميا.بعبارة أخرى تشكلت هيئات عالمية مثل "لجنة العفو الدولية" المعنية بالدفاع عن حقوق الإنسان، وكذلك منظمة "أطباء بلا حدود" وغيرهما مجال عملها هو العالم بأسره وليس بلدا محددا بالذات.
وقد تصاعدت وتيرة نمو وتطور مؤسسات المجتمع المدنى في العالم بحكم امتداد وتعمق الموجة الثالثة للديمقراطية، وسقوط عديد من قلاع النظم الشمولية والسلطوية. غير أنه في مصر المحروسة قبل الثورة وبعدها نشأ صراع بين الدولة والمجتمع المدنى. وقد نشأ هذا الصراع أساسًا لأسباب سياسية لأن عديدًا من منظمات المجتمع المدنى المصرية كانت أساسًا منظمات حقوقية معنية أساسًا بمواجهة القمع السياسي للنظام وتدافع عن حقوق الإنسان.
غير أن حدة الصراع بين الدولة المصرية ومؤسسات المجتمع المدنى زادت بشدة بعد أن دخلت على الخط الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي التي تعمدت أن تخدمه في تمويل مؤسسات المجتمع المدنى لاستخدامها كأداة لتحقيق التحول الديمقراطى الذي امتنعت الدولة المصرية عن إتمامه، استجابة لضغوط الخارج ومطالبات الداخل.
ومن هنا ارتفعت الاتهامات لمؤسسات المجتمع المدنى المصرى بأنها في الواقع "عميلة" لدول ومنظمات أجنبية بالإضافة إلى الاتهامات الخاصة بالفساد المالى والذي يعنى إثراء بلا سبب حققه عديد من الناشطين السياسيين والمشرفين على هذه المؤسسات، وبعض هذه الاتهامات صحيح على سبيل القطع بعد أن لوحظ أن بعض "زعماء" مؤسسات المجتمع المدنى كونوا ثروات باهظة بعد سنوات من تلقى الدعم الأجنبى، مع أن إقرارات الذمة المالية لهم تشهد على أن التطورات التي لحقت بثروتهم ليست لها مصادر معروفة وشرعية.
وفى ضوء هذا الصراع حاول النظام المصرى قبل ثورة 25 يناير تقييد حركة مؤسسات المجتمع المدنى، بل إن بعض الناشطين السياسيين في هذا المجال قد حولوا للمحاكمة بتهم شتى.
وجاءت ثورة 25 يناير، ويمكن القول إن الصراع بين الدولة وبين مؤسسات المجتمع المدنى انتقل إلى طور جديد. ذلك لأن الدولة بعد 25 يناير وخصوصًا في عهد الحكومات الأخيرة أصرت على ضرورة تنظيم مؤسسات المجتمع المدنى وإخضاعها للرقابة القانونية للدولة من زاوية ضرورة حصول المؤسسة على ترخيص من الدولة بشروط محددة، وفى نفس الوقت الرقابة على المنح المالية المقدمة من الخارج وأوجه انفاقها ودرءًا للفساد الشخصى ورقابة من الانحراف السياسي حتى لا تعمل لصالح جهات أو دول أجنبية.
وقد ثارت مؤسسات المجتمع المدنى لأسباب مفهومة ضد محاولات الدولة لتنظيم نشاطها، مع أن لها الحق في ذلك كما هو الحال في أي دولة ديمقراطية معاصرة. وأعلنت بعض هذه المؤسسات تجميد نشاطها، وأعلنت مؤسسة حقوقية شهيرة، اعتراضا منها على القانون وقف نشاطها والانتقال إلى تونس لمواصلة نشاطها من هناك! وفى تقديرنا أنه لابد من التوافق بين الدولة ومؤسسات المجتمع المدنى في ضوء القانون والشفافية والنزاهة.