رئيس التحرير
عصام كامل

هل يحاكم القضاء التاريخ ؟


الحكم بمنع نقل رفات يعقوب أبو حصيرة من دمنهور لإسرائيل..ممكن، ولو أنه يبقى فيه كلام. القضاء بوقف الاحتفال بالمولد.. منعا لتجاوزات المولد وبلاوى المولد.. جائز.. ومعقول.. ويمر لو أنه يبقى فيه حديث أيضا، لكن الإصرار على شطب مقام "الصوفى اليهودى" من قائمة الآثار لمجرد أنه "يهودى" هو الذي لا يجوز.. ولا معقول.. ولا متصّور، ولا فيه كلام. 

ليست مناقشة في حكم قضائى. القضاء على رقبتنا.. كم نادينا بسلطان القضاء.. ومزيد من السلطة لسلطان القضاء. نكتب هذا الآن، لأن الحكم الصادر من القضاء الإداري أولى.. يعنى أول درجة..يبقى أمامه درجة ثانية. بعد الإدارية تبقى الإدارية العليا. ولأن الحكم ابتدائى، لابد للدولة من أن تطعن.. ضرورى على الحكومة أن تستأنف.

القضية كبيرة.. الموضوع أكبر من مجرد دعوى قضائية أقامها بعضهم لإلغاء مولد في إحدى قرى دمنهور.

اعتبرها مناقشة في قضية اجتماعية. اعتبرها سجالا.. وهات وخد في مسألة خاصة بنظرة مغلوطة في مجتمع يريد الانفتاح على الجميع.. يستوعب الجميع.. ويعيد البحث في مغالطات قد تظهر من أن لآخر في أذهان الجميع. تحتاج المغالطات الاجتماعية غالبا إلى مزيد من التدقيق لإعادة توصيف الأفكار وتنظيمها. 

القضية ليست في حكم المحكمة.الحكم مردود عليه بالاحتكام لمحكمة أخرى. الأزمة في من "هللوا للحكم".. المعضلة فيمن اعتبروه انتقاما من الحكومة الإسرائيلية وعنصرية الحكومة الإسرائيلية.. لكن القضية ليست موجهة ضد إسرائيل.. ولا علاقة لها بعنصرية وصهيونية إسرائيل.

القضية مصرية صرفة..الحكم قضى بشطب أثر مصرى مبنى على الأرض المصرية سابقة خطيرة.. الموضوع يخرج كما نرى من ولاية القضاء.. يدخل أكثر في ولاية "العقل الجمعى".. يمكن مناقشته تحت بند "الفكر الاجتماعى". 

في حكمه قضى نائب رئيس الإدارية المستشار محمد خفاجى بإلغاء المولد في دميتوه دمنهور، قضى بمنع نقل رفات صاحب المقام لإسرائيل، وحكم بشطب الأثر من سجلات الآثار.

قال إن المحكمة استقر لديها أنه لم يثبت أية مساهمة لليهود في حضارة المصريين.. وبالتالى لا يستقيم الأمر باعتبار أثر يهودي.. أثرا مصريا ! 

صحيح..لم يثبت لليهود أية مساهمة في حضارتنا..لكن ما علاقة وجود أثر متواجد فعلا على الأرض بمساهمات اليهود؟ لا علاقة.. والذي حدث خلط رهيب وكبير. للمستشار الدكتور محمد خفاجى، وهو قاضٍ جليل رأيه. له أجره أيضا..هو اجتهد.. لو أصاب له أجران.. واحد للاجتهاد.. والآخر للإصابة. على الأقل له هذه المرة أجر واحد. أجر الاجتهاد. خطأه في الاجتهاد مردود.

وجهة نظره محل اعتبار.. لكنها تظل أحادية.. يعنى وجهة نظر جانب واحد.. لذلك يجب أن تستأنف وزارة الثقافة.. عليها أن تطعن وزارة الآثار.. يجوز أن تنظر محكمة أعلى درجة للأمر بعين ثانية. 

لماذا نحتاج عينا ثانية.. وهيئة محكمة موقرة ثانية ؟ 
لأن الفارق كبير بين الإقرار بخلو التاريخ المصرى من أية مساهمات يهودية، وبين الحكم بإعدام أثر.

في أفغانستان.. صوبت حركة طالبان المتطرفة فوهات المدافع.. وأطلقت النار على رءوس تماثيل بوذا العملاقة بدعوى عدم تمثيلها للحضارة الإسلامية، ولأن التاريخ الإسلامي كما قالوا لم يكتبه البوذيون. 

كانت حماقة.. فلا قال أحد إن البوذيين كتبوا تاريخ المسلمين.. ولا يجب أن يعتقد أحد أن هدم التماثيل ألغى تاريخ تواجد ناس ما يعرفوش ربنا كانوا يعبدون بوذا في تلك المنطقة فترة من الزمن. 

لم تفلح مدافع طالبان في مصادرة التاريخ.. صحيح أسقطت تماثيل بديعة، لكنها لم تلغ التاريخ. المدافع لا تلغى التراث.. كما لا تفعل أحكام القضاء. 

لو شطبنا "ضريح يعقوب أبو حصيرة" من سجل الآثار.. سيظل أثرا يهوديا قديما أقيم على أرض مصرية عام 1880. سيبقى ضريح الصوفى اليهودى أثرا حتى لو حطمناه..على الأقل لأنه أقيم قبل أكثر من مائة عام. 

يعتد قانون الآثار بأى مبنى اقيم قبل مائة عام..حتى لو كان إسطبل خيل مملوكى. بعض عمارات وسط البلد في القاهرة والإسكندرية مسجلة آثارًا رغم أن من بناها كانوا أرمن.. ويهود. لا يعقل تسجيل عمارة يعقوبيان كأثر بعد نحو 10 أعوام من الآن، بينما يشطب ضريح "ديمتوه" اليوم. 

بعضهم قال إن ضريح أبو حصيرة تأصيل للخرافات اليهودية. ففى المأثور أن الرجل الصالح سافر على سفينة متجها من المغرب إلى فلسطين.. قرب شواطئ مصر غرقت السفينة، فطار على حصيرة، إلى فلسطين، ومنها إلى مصر حيث استقر في دمنهور حيث أقاموا الضريح بعد وفاته. 

المأثور لا يمكن وصفه بالخرافة، بقدر ما هو تأصيل فكرى لمن عاشوا في زمن ما..المأثور الشعبى شاهد على "أرضية معرفية " لمن عاشوا في وقت ما. 

ذلك هو التراث..والتراث لا تلغيه أحكام القضاء..أو قل ليس من اختصاص القضاة إلغاء المأثور. جهد كبير لو دخل القضاء في صراع مع..المأثور. 
المعركة نهايتها ليست في صالح القضاء.. ولا في صالح التاريخ. 
Twitter: @wtoughan
wtoughan@hotmail.com
الجريدة الرسمية