رئيس التحرير
عصام كامل

"بيرم التونسى" شاعر المنفى والمآسى.. دخل عالم الأدب مصادفة بقصيدة ضد "المجلس البلدى".. لمع نجمه مع "سيد درويش" و"أم كلثوم".. دفع سنوات المنفى ثمن معاداته للسلطة.. و"عبدالناصر" يمنحه الجنسية المصرية



"هو صحيح الهوى غلاب؟!.. معرفش أنا.. والهجر قالوا غرام وعذاب.. واليوم اليوم بسنة" هذه الكلمات مطلع لأغنية عاطفية كتبها شاعر العامية المصري بيرم التونسي، لتغنيها سيدة الغناء العربي "أم كلثوم"، ولكنها تعبر بشدة عن العلاقة بين بيرم ومصر أثناء نفيه إلى فرنسا، حيث فاق حزن واشتياق الشاعر التونسي الأصل لمصر كل الحدود.


النشأة الإسكندرانية للتونسي
اسمه الحقيقي محمود محمد مصطفى بيرم، وهو ابن لأسرة تونسية انتقلت للحياة في مصر، واستقرت في حي السيالة بمحافظة الإسكندرية، ولد في 32 مارس 1893، أحب الإسكندرية وعشق تراثها، وكعادة المصريين الذين يلقبون الأشخاص ببلادهم، أطلقوا عليه اسم بيرم التونسي، والذي أصبح فيما بعد من أشهر شعراء العامية المصرية، وعلامة بارزة في الشعر والصحافة وعالم الأدب المصري.

سكن في منزلهم بالإسكندرية أستاذ تركي اسمه محمد طاهر، وقد رأي في بيرم ميله للزجل والشعر فأهداه كتابًا في فن العروض، وكان هذا الكتاب نقطة تحول في حياته، فما كاد يقرأه حتى بدأ محاولاته في كتابة بعض الأزجال والأشعار، وكان بيرم شغوف بالقراءة، فقرأ وهو في السابعة عشر كتابا في الصوفية لمحيى الدين بن العربي، وما إن قرأ الكتاب وحل ألغازه، حتى بدأ يبحث عن كتب أخرى من هذا النوع، فاشتري كتبًا؛ للمقريزي والغزالي والميداني، وقرأ في الأدب الشعبي لعبدالله النديم، وحفظ أزجال الشيخ النجار والشيخ القوصي، وحاول تقليدها.

بيرم الشاعر
بدأ التونسي حياته كشاعر مصادفة مع قصيدة كتبها ضد المجلس البلدي، حيث فوجئ ذات يوم بالمجلس البلدي في الإسكندرية، وهو يحجز على بيته الجديد، ويطالبه بمبلغ كبير كعوائد عن سنوات لا يعلم عنها شيئًا، فكتب قصيدة يهاجم المجلس فيها، ونشرت كاملة في جريدة "الأهالي" بالصفحة الأولى، وأحدث نشر القصيدة دويا، وحققت الجريدة توزيعا كبيرا، وتحدثت الإسكندرية كلها عن القصيدة، وبعدها رأى التونسي في الأدب وسيلة للرزق.

اتجه بيرم بعد هذه القصيدة إلى الأدب؛ فترك التجارة واهتم بتأليف الشعر، إلا أنه أدرك بعد فترة أن الشعر وسيلة محدودة الانتشار بين شعب 95% منه لا يقرأون، فاتجه إلى الزجل، ليقرب أفكاره إلى أذهان الغالبية العظمي من المصريين، وكانت أزجاله الأولى مليئة بالدعابة والنقد الصريح الذي يستهدف العلاج السريع لعيوب المجتمع، وكان يعتمد في لقطاته الزجلية على السرد القصصي، ليصور العلاقات الزوجية، ومشكلات الطلاق، والعادات الاجتماعية الساذجة الموجودة آنذاك، مثل حفلات الولادة والطهور والزار.

صداقات فنية
"أنا المصري كريم العنصرين.. بنيت المجد بين الأهرمين.. جدودي أنشأوا العلم العجيب.. ومجري النيل في الوادي الخصيب"، قصيدة جمعت بين الصديقين "بيرم التونسي" و"سيد درويش" وكانت سببا لشهرتهما معا، وجمعت بين المؤلف والمطرب صداقة عميقة، وتلازما في الظهور في السهرات الفنية التي اشتهرت بها الإسكندرية في ذلك الوقت.

بيرم وأم كلثوم
كما جمعت التونسي بسيدة الغناء العربي أم كلثوم صداقة فنية، حيث شهدت الساحة الفنية تعاونا بينهما، حيث طلبت الست من الشيخ زكريا أحمد أن يعرفها على بيرم التونسي بعد أن ذاع صيته، ويتم التعارف بين بيرم وأم كلثوم، وتتفق معه على مجموعة من الأغاني يلحنها زكريا أحمد، ويبدأ بيرم في أول أعماله الغنائية مع أم كلثوم في أبريل عام 1941، بتأليف أغنية "أنا وأنت"، ثم يتبعها بأغنية أخرى وهي أغنية "كل الأحبة"، وتبدأ رحلة الأعمال الفنية لأم كلثوم مع كلام بيرم وألحان زكريا أحمد، فتغني أم كلثوم أيضًا من كلام بيرم وألحان زكريا أحمد أغنية «إيه أسمى الحب»، وأغنية «الآهات» والتي ترددت أم كلثوم كثيرًا في غنائها لولا إقناع الشيخ زكريا أحمد لها، وعلى الرغم من ذلك حققت الأغنية نجاحًا قويًا جدًا، حتى وأنها ما إن انتهت من الغناء حتى ظل التصفيق لأم كلثوم أكثر من عشر دقائق، وكانت هذه أطول مدة تصفيق استقبل فيها الجمهور أغنية من أغانيها طوال حياتها، كما غنت له بعض الأناشيد الوطنية مثل أغنية "صوت السلام"، والتي كانت سببًا في حصوله على ميدالية برونزية من المجلس الأعلى للفنون والآداب.

الشاعر والصحفي المشاغب
كان التونسي شاعرا مشاغبا، ولم يكتف بالقصيدة المؤرقة للسلطة بل اتجه للصحافة، ليؤكد عداؤه للسلطة، فأصدر مجلة "المسلة" ثم "الخازوق" وتم مصادرتهما، ونفته السلطات لبلده تونس، بسبب مقالة هاجم فيها زوج الأميرة فوقية ابنة الملك فؤاد، ولقمع المستعمر الفرنسي التونسيين سافر لفرنسا، وعمل حمّالًا في ميناء مارسيليا لسنتين.

المنفى
عانى الشاعر المشاغب كثيرا في منفاه، ولم يتحمل بعده عنه بلده مصر ومعشوقته الإسكندرية، وتمكن وقتها من تزوير جواز سفره ليعود لمصر، ولكن تم القبض عليه وتم نفيه مجددًا لفرنسا، وتم ترحيله في 1932من فرنسا لتونس بعد طردها الأجانب، وهناك أعاد نشر صحيفة «الشباب»، وأخذ يتنقل بين لبنان وسوريا، وقامت السلطات الفرنسية بإبعاده عن سوريا لإحدى الدول الأفريقية.
إلى أن قامت ثورة يوليو وتم العفو عنه، والسماح له بالعودة إلى مصر، ومنحه الرئيس جمال عبد الناصر الجنسية المصرية، وتوفي في مصر في5 يناير 1961.
الجريدة الرسمية